ليس ضحايا الحرب فقط، هم من طاولتهم مباشرةً، قتلاً أو تهجيراً، أو اختفاءً، أو غير ذلك. ثمّة ضحايا «غير مباشرين»، دفعوا أثمان تضرّر المنظومة الأخلاقية، واستشراء العنف وتحوّله إلى «نمط حياة». على رأس هذه الفئة، تتربّع النساء المعنّفات اللواتي تضاعفت أعدادهنّ في السنوات الأخيرة. تبذل بعض الجهات جهوداً للحد من الانعكاسات السلبية للتعنيف الواقع على النساء، من بينها دير «الراعي الصالح»، ووزارة «الشؤون الاجتماعيّة»، فيما تتزايد الحاجة إلى توسيع تلك الجهود لتشمل كل المحافظات.انقلبت حياة سعاد (اسم مستعار) رأساً على عقب، بعد أن اقتحمت عشيقةٌ سريّة حياة زوجها. قبلها، كانت السيدة تعيش حياة أسريّة مستقرّة في جرمانا (ريف دمشق) مع زوجها وابنتيها، لكنّ «الجنّة المنزليّة» سرعان ما تحولت إلى جحيم بطعم الخيانة والإهانة، وراح الزوج يتخلى عن واجباته تدريجاً، بعد أن قاسمت عشيقتُه العائلة حتى في مصروف معيشتها.

وداعاً للضعف
تقول سعاد (45 عاماً) لـ«الأخبار» إنها حاولت جاهدة «البحث عن حل ينقذ الطفلتين من ذلك الجو المسموم»، وتضيف: «ساءت الأمور إلى حد لا يطاق، ثم قرر زوجي طردي من المنزل». تلقّت سعاد نصيحة من إحدى جاراتها، بالتوجه إلى مركز مختص بحماية النساء، وهذا ما كان. اتصلت السيدة بـ«هاتف الثقة»، لتبدأ بعدها بالتردد إلى المركز. «أخذت حياتي منحىً إيجابياً منذ اليوم الأول الذي قابلت فه الاختصاصية الاجتماعية»، تقول. وتضيف: «أنا اليوم أكثر استقلالاً. صار لدي شغلي الخاص بدعم من المركز، وبات في وسعي تحمل مصاريف ابنتيّ، وكسبت دعوى نفقة ضد زوجي، بفضل الإرشادات القانونية للاختصاصية الاجتماعية». تؤكد سعاد أن «النفقة قليلة»، وتشدد على ضرورة أن «يصبح القانون أكثر رحمة بالأم التي تنفق على أولادها من دون معيل، فالحياة صعبة لا ترحم النساء المستضعفات». تعيش سعاد اليوم مع ابنتيها في منزل استأجرته، بعد أن تخلّصت من سطوة الضعف إلى حدّ كبير، ولا يزال مشوارها مستمراً مع الاختصاصية الاجتماعية التي تتابع حالتها، ومع «هاتف الثقة». تقول: «أنا اليوم امرأة قوية، لم أعد أهتم بزوجي الذي خانني وتخلّى عن أسرته».

«الثقة» في متناول الجميع
افتُتح «هاتف الثقة»عام 2007، بتاريخ 25 تشرين الثاني، المصادف لـ«اليوم العالمي لمكافحة العنف ضد النساء». تؤكد إدارة «مركز راهبات الراعي الصالح» أنّ «الرهبنة تحمل رسالة الوقوف مع الناس المحرومين، ولا سيما النساء والفتيات، بغضّ النظر عن أيّ انتماء ديني أو عرقي أو مناطقي أو سياسي». يشكل «هاتف الثقة» حلقة الوصل الأولى للمعنفات مع «الراعي الصالح»، ويمكن الوصول إليه من خلال رقم متاح للعموم، عبر صفحة خاصة به على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك». تبدأ الآلية بالاتصال مع «مدير الحالة»، وبعد ذلك تُنظم استمارة لكل حالة، وتحوّل بحسب الحاجة إلى اختصاصيين اجتماعيين أو نفسيين. يعود للاختصاصي اتخاذ القرار المناسب، فإما الاكتفاء بالاستشارة الهاتفية، أو إجراء المقابلة الشخصية في المركز وتقديم يد العون.
يقدَّر عديد طاقم «هاتف الثقة» بأربعين شخصاً، من بينهم أساتذة جامعيون


قتلوا صهرهم
تختلف حالة يسرى (اسم مستعار) عن حالة سعاد في المقدّمات، وتتشابه الحالتان في النتيجة. تزوجت يسرى شابّاً من دون رضى أسرتها، وانتقلت معه إلى محافظة أخرى. لكنّ الأهل لاحقوا الزّوجين، وتمكنوا من العثور عليهما، ليذهب الزوج ضحيّة جريمة قتل، وتجد الزوجة نفسها وحيدةً وهشّة. اهتدت يسرى إلى «هاتف الثقة»، الذي يتبع «دير راهبات الرّاعي الصالح» في باب توما بدمشق، ما منحها «وجهةً آمنة».

الحرب «أُم المآسي»
يستقبل «الراعي الصالح» النساء مع أولادهن، أو الفتيات والقاصرات اللواتي تعرضن للعنف، من عمر 6 سنوات فأكثر. تقول المستشارة القانونية في «هاتف الثقة» المحامية سنيّة يوسف، إن الدير يشكل «مقصداً للنساء اللواتي يعانين من العنف أو التشرد من مختلف المحافظات ومن خارج سوريا». وتضيف: «يقدّم الدير المأوى والدعم النفسي والشخصي والاجتماعي للمعنفات، ويعمل على حل مشكلاتهن وتمكينهن من خلال تعليمهن مهناً معينة». توضح يوسف لـ«الأخبار» أن مدة مكوث الأنثى التي تلجأ إلى الدير «تراوح ما بين يوم، وستة أشهر. نحاول خلال المدة التواصل مع أهلها أو زوجها، وحل المشكلة إن أمكن». وتضيف: «غالباً ما يكون انطباع الأهالي جيداً، عندما يجدون أن الفتاة لجأت إلى الدير، لا إلى مكان آخر». يضم المركز فرقاً ومشاريع، منها مشروع «رفيق درب»، الذي ينشط في إقامة جلسات توعية للنساء، ومشروع «الخدمة الاجتماعية»، الذي يُعنى بزيارة الأسر وتقديم بعض الخدمات إليها. إضافة إلى فريق «الوفاق الأسري»، الذي يحاول حلحلة المشكلات بين الأزواج تجنباً للطلاق، من خلال أطباء ومعالجين نفسيين واجتماعيين. تقول المحامية يوسف: «كبر طاقم العمل خلال الأزمة بسبب ازدياد العنف، وانتشار الخطف والتحرش والتعنيف الجسدي أو اللفظي». وتضيف: «علاوة على ذلك، ازدادت حالات الزواج العرفي، وزواج القاصرات اللواتي حُرم كثير منهن حق التعليم. كذلك تضاعفت الولادات غير الشرعية نتيجة الاغتصاب، أو الولادات الشرعية غير المسجلة في المحاكم، خاصة مع غياب الزوج الذي قد يكون قتيلاً أو مسافراً». في الوقت الراهن، يقدَّر عديد طاقم «هاتف الثقة» بأربعين شخصاً، من بينهم أساتذة جامعيون، ومتطوعون.

الحكومة على «الخط السّاخن»
«هاتف الثقة» الأهلي، ليس وحيداً في مجاله. إذ يشابهه في طبيعة العمل «الخط الساخن» لـ«وحدة حماية الأسرة»، وهي الوحدة الحكومية الأولى من نوعها، وتتبع «الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان». مديرة القضايا الأسرية في «الهيئة» رنا خليفاوي، تقول لـ«الأخبار» إنّ «وحدة حماية الأسرة، افتتحت في دمشق منذ سنتين، بالتعاون مع المجتمع الأهلي والمنظمات الدولية، بهدف استقبال النساء والفتيات الناجيات من العنف». تؤكد خليفاوي أن «الوحدة نواة لتأسيس وحدات أخرى في كل المحافظات لاحقاً»، مبيّنة أن «القدرة الاستيعابية للمبنى بحدود 93 شخصاً». كذلك، «أسست الهيئة حديثاً مرصداً لتتبُّع ظاهرة العنف الأسري وإشكالاتها، وأنشأت 18 نقطة رصد مجهزة إلكترونياً، توزعت على المشافي وأقسام الشرطة والجمعيات»، وفقاً لخليفاوي.