الحسكة | خلت «غابة الحمّة»، في ريف الحسكة الغربي، من زوارها الإيزيديين، إذ اختار من تبقى منهم الاحتفال بعيد رأس السنة الإيزيدية في منازلهم، فهجروا الغابات وأماكن الاحتفال. يحيي لواء نعمان طقوس رأس السنة، المعروف باسم «الأربعاء الأحمر»، في قرية «السليمانية» بريف الحسكة الشمالي. هاجر معظم سكان القرية بفعل الحرب، وتقلص عدد قاطنيها من 150 عائلة إلى خمس عائلات فقط. ويتكرّر المشهد في معظم القرى التي يقطنها الإيزيديون، في ريف الحسكة. لم يستسلم سعيد درويش، الملقب بـ«أبو جوان»، لفكرة الهجرة، وقرّر مع عائلته البقاء. يستقبل أبو جوان في منزله ضيوفه المهنئين بـ«الأربعاء الأحمر»، من مختلف مكونات المجتمع. يستذكر الرجل في حديث مع «الأخبار» أعياد ما قبل الحرب. يقول «كانت أفراحنا ورقصاتنا تبهج حتى الطبيعة، التي كنا نشعر أنها تحتفل بنا في كل نيسان». ويضيف «صحيح أن البهجة اختلفت والعيد بات حبيس المنازل، ولم تعد له نكهته السابقة، لكنه بالتأكيد أجمل من أي عيد في أي مكان آخر».
«التغريبة»
بحسب إحصاءات قام بها ناشطون في عام 2010، بغية إنشاء جمعية إيزيدية، تجاوز عدد الايزيديين في عموم سوريا 50 ألفاً، كانوا يتوزعون بين الحسكة وعفرين. في السنوات الأولى من الحرب، تناقص العدد إلى أقل من 20 ألفاً، بعد موجة هجرة حادة نحو العراق، وتركيا، وأوروبا. اندلعت شرارة هجرات الإيزيديين من سوريا عقب فتك الإرهاب بأولادهم خطفاً وقتلاً. كانت «جبهة النصرة» سبّاقة في هذا الإطار، حين شنّت هجمات عنيفة على قراهم، وكان من أبرزها الهجوم على قرية «الأسدية» (جنوب رأس العين)، في شهر آب من عام 2013. لاحقاً، تكفّل تنظيم «داعش» بدفع معظم من تبقّى إلى الهجرة، عقب المجازر التي ارتكبها بحق أقرانهم في العراق (عام 2014). لم تكن «تغريبة الإيزيديين السوريين» بقسوة ما حصل في سنجار العراق، لكن نتائجها من حيث تهديد الوجود الإيزيدي لا تبدو أقل خطورة. وتدلّل على ذلك هجرة أهالي قرى بأكملها، مثل موتسكو، وبرزان، وهيشري، وغيرها من قرى الحسكة. يحبس دعيج سعيد دموعه وهو يروي لـ«الأخبار» أسباب هجرته وعائلته من قريته «جدالة»، بريف الحسكة، إلى ألمانيا، قبل أربع سنوات. يقول «ما فعله داعش بحق أهلنا في العراق كان جرس الإنذار، كما تعرض كثير من أهلنا في سوريا للخطف والتهديد على يد النصرة وداعش وغيرهما. اضطررنا إلى الفرار، لضمان مستقبل أولادنا». يؤكد الرجل أن «الإيزيديين أناس مسالمون لا طاقة لهم بالحرب وتبعاتها، كما أنهم يشكلون أقلية محدودة كانت تعيش بسلام وتعايش وسط جميع المكوّنات الأخرى، لكن الإرهاب لا يهتم بالتفاصيل». يشرح سعيد درويش أن «الهجرة الإيزيدية من سوريا جاءت على مرحلتين، الأولى كانت بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة في الثمانينيات، والثانية في السنوات الأخيرة بفعل الإرهاب».
فرّ معظم الإيزيديين من عفرين بعد الغزو التركي


مرارة وصمود
رغم التهديد الذي طال عائلته، وخطف ولده، لم يستطع سعيد درويش استيعاب فكرة الابتعاد عن قريته. يقول «قررت البقاء، ولو كان الثمن حياتي». ويضيف «فكرة الهجرة كانت بالنسبة إليّ موتاً ونهاية». أمّا لورنس حسو، فلم يحتمل البقاء وحيداً في قرية هيشري، فقرّر حمل ذكرياته، والانتقال إلى مدينة الحسكة. لكنه يستثمر عمله سائقاً لسيارة أجرة، ليزور قريته ويطمئن على حال المنازل في شكل دَوري. يقول لورنس، الذي هاجرت أسرته وأولاده إلى ألمانيا، لـ«الأخبار»: «رأيت أن من واجبي تحمّل ظروف الحرب في البلاد، فقررت البقاء هنا، في أرض أجدادي». يعبر الشاب عن تفاؤله بالمستقبل الذي «سيكون أفضل بعد أن تضع الحرب أوزارها، ونعود للعيش بسلام». وفي قرية كرنكو على طريق عامودا ــ الحسكة، يواصل العم جلال زبير كوري، صموده. يؤكد لـ«الأخبار» أن «بقاء إيزيدي واحد على هذه الأرض، يعني بقاء الديانة الإيزيدية التي يكتمل بها جمال لوحة الأطياف السورية».

إيزيديو عفرين: «الإسلام قسراً»
لم تؤثر الحرب كثيراً على سكان القرى الإيزيدية في ريف عفرين، حتى جاء الغزو التركي. وشكّل الأخير خطراً كبيراً عليهم، ليقرر معظمهم الفرار باتجاه حلب وتركيا والعراق، فيما بقي قرابة 10 آلاف من السكان تحت رحمة الاحتلال التركي والمجموعات التابعة له. وينقل كثير من إيزيديي الحسكة عن أقرانهم في عفرين، أن «كل من بقي أجبرته الميليشيات المسلحة على إشهار إسلامه». وتُجمع المصادر على «واقع مرير يعيشه سكان تلك القرى، وخسر كثير ممن هجرّوا ممتلكاتهم، التي اعتبرت غنائم حرب للغزاة الجدد».

«القادم أجمل»؟
لا يُخفي دعيج سعيد، حنينه إلى بلاده. يقول «طوال أربعة أعوام لم أستطع أن أرى أوروبا، إلا كباقة ورد جميلة، لكنها بلا روح أو رائحة». ويضيف «أرواحنا بقيت في سوريا، وأجسادنا فقط هنا». يؤكد الرجل أن «قرار العودة حتمي، لكن حينما تكون الظروف مناسبة»، ويوضح أنه يتواصل «مع عائلات كثيرة من السوريين والإيزيديين ممن غادروا في الحرب. الجميع ينتظر أن تضع الحرب أوزارها ويعم السلام، ليعودوا إلى قراهم وبلداتهم». أمر يؤكده بدوره سعيد درويش، ويقول «كل من ترك قريته لم يقدم على بيع ممتلكاته، وهذا مؤشر إيجابي على أنهم ينتظرون اللحظة المناسبة للعودة. أثق بأن كُثراً ممّن غادروا سيعودون، وستعود القرى لتنبض بالحياة من جديد. هو يوم لن يكون بعيداً».

لمحة
الإيزيديون، هم أتباع الديانة الإيزيدية. تتباين الروايات بشأن تاريخ ظهور الديانة، ويعدها البعض انبثاقاً عن الديانة البابلية القديمة، فيما يرى بعض آخر أنّها «إحدى الفرق المنشقة عن الإسلام»، ويؤكد آخرون أنها «تطوّر للديانة الزرادشتية». يتحدث الإيزيديون اليوم اللغة الكردية، وترى بعض الدراسات أنّهم كانوا يمتلكون لغةً خاصة بهم، تفرّعت عن اللغات الرافدينية، وأنها كانت أساس اللغة الكرديّة، لكنّها اضمحلت تدريجيّاً. للإيزيديين طقوس دينية متعددة يمارسونها في كل من سوريا والعراق بأريحية. ولهم معابد مهمة، أبرزها معبد «لالش» في العراق، الذي يعتبر بمثابة محجّ، يقصدونه سبعة أيام في السنة، في الأسبوع الأخير من أيلول. للإيزيديين أعياد متعددة، أبرزها «الأربعاء الأحمر»، (بالكردية «جار شمه صور»). يُعدّ هذا اليوم «عيد خلق الكون»، ويُحتفل به يوم الأربعاء الأول من شهر نيسان، وفق التقويم الشرقي القديم، وهو بداية السنة الإيزيدية.