بألم وحسرة، يروي ميشيل بريبهان حكاية هروبه مع عائلته من منزله في «مخيم اليرموك» في دمشق، بصحبة عدد من أصدقائه (المكفوفين أيضاً) الذين كانوا في ضيافته، قبل نحو سبع سنوات. يقول بريبهان، وهو متزوج من سيدة مكفوفة أيضاً ولديه منها ثلاثة أبناء أبصارهم معافاة، «في ذلك الوقت كان لدينا طفلان فقط. كنت قد اشتريت لهما غرفة نوم جديدة ملونة، وكان في ضيافتنا عدد من الأصدقاء. فجأة سمعنا أصوات انفجارات وقصف راحت تقترب». من دون تفكير، حمل الأبوان ابنيهما وخرج جميع الموجودين إلى منزل آخر «نزلنا من بيتنا في الطابق الثالث فوراً. لم نحمل معنا من منزلنا شيئاً. أكثر ما شغل بالي حينها سلامة طفليّ، وسلامة ضيوفي». نجح ميشيل وعائلته وأصدقاؤه في الخروج من «مخيم اليرموك»، والسفر تالياً إلى اللاذقية. يقول «خلال رحلتنا كانت تجلس معنا في السيارة صبية مبصرة، راحت تصف لنا الدمار المحيط بنا، فقمنا، أنا وزوجتي، بوضع أيدينا على عيون طفلينا كي لا يريا تلك المشاهد».
أبرز المشاكل التي يعاني منها مكفوفو الحرب ذات خلفيات نفسية
استطاع ميشيل بدء حياة جديدة في مسقط رأسه اللاذقية، بعد أن فقد عمله ومنزله وكل ما كان يملكه في «اليرموك». أنجبت زوجته الابن الثالث لهما، وبات يعمل في تركيب العطور والتجارة، إضافة إلى نشاطه في «جمعية المكفوفين» التي يشغل فيها منصب نائب رئيس الجمعية ومدير العلاقات العامة.
مكفوفو الحرب
بين وقت وآخر ينظم عمر حسنو، وهو طالب جامعي فاقد لحاسة البصر، ورشات عمل ودورات تعليمية للمكفوفين، لتدريبهم على كيفية الاستفادة من التكنولوجيا، ولا سيّما البرامج والتطبيقات التي تساعدهم على دخول عالم «التواصل الاجتماعي»، الأمر الذي حوله إلى مرجع تقني لمعظم مكفوفي اللاذقية. يروي حسنو حكايات عديدة عن مكفوفين تمكّن من مساعدتهم، قبل أن يستفيض في الشرح حول خصوصية من كان مبصراً وفقد بصره خلال الحرب. يقول: «واجهت خلال عملي العديد من الحالات الصعبة، من بينها حالات لأشخاص فقدوا حاستين معاً كاللمس والبصر، أو حتى البصر والسمع». عماد (اسم مستعار) مقاتل في فصيل رديف للجيش السوري تعرض للخطف في إدلب، وأقدم المسلحون على قتل جميع المحتجزين معه، كما قام أحدهم بذبحه (حزّ عنقه بقصد قتله، من دون أن يفصل رأسه كليّاً). نجا عماد من الموت بأعجوبة، بعد أن هرب خاطفوه إثر هجوم مباغت شنّته وحدة من الجيش، ليستيقظ في المستشفى فاقداً إحدى يديه وبصره وعائلته أيضاً. «لا يمكن لأحد أن يصف الشعور الذي عاشه: ظلام دامس وجد نفسه فيه، أصوات غريبة تحدّثه، لا منزل يعود إليه، ولا عائلة تقف معه. هذا ما تركته الحرب» يقول أحد أصدقائه، ويضيف «بعد فترة من معاناته، تمكن أخيراً من التأقلم مع محنته، وتبنّت حالته إحدى المنظمات السورية التي تعمل في الوقت الحالي على دعمه ومساعدته».
لا توجد إحصاءات دقيقة بشأن عدد المكفوفين في سوريا بعد ثمانية أعوام من الحرب، في ظل انكفاء بعض المكفوفين على أنفسهم وعدم تسجيل أسمائهم لدى الجمعيات المعنيّة بمساعدتهم، وفق «نائب رئيس جمعية المكفوفين في اللاذقية» ميشيل بريبهان، الذي يقول «يوجد لدينا في سجلات الجمعية في اللاذقية حوالى 200 اسم، بينهم نحو 10 أسماء فقط لأشخاص فقدوا بصرهم خلال الحرب».
يُجمع عدد ممن تعامل مع مكفوفي الحرب على أن أبرز المشاكل التي يعانون منها ذات خلفيات نفسية. «يحتاجون إلى رعاية نفسية خاصة ليتمكنوا من تجاوز محنتهم»، يقول مشارك في دورة تدريبية للمكفوفين، ويضيف «صحيح أن البصر حاسة مهمة جداً، لكن فقدانها لا يعني الموت. يمكن للإنسان أن يتأقلم مع واقعه، كما يمكنه أن ينمّي حواس أخرى تساعده على تجاوز هذا الأمر».
سلاح الموسيقى
إضافة إلى ما تقدّم، يعاني المكفوفون مثل جميع السوريين، من تبعات الحرب الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي عبّر عنه غابي صهيوني بأغنية أطلقها قبل فترة، حملت عنوان «جاري فايز»، وانتقد من خلالها الأوضاع الاقتصادية والخدمية وهيمنة المحسوبيّات على حياة السوريين. «أدمنت قراءة الأخبار والتحليلات السياسية قبل سنوات»، يقول صهيوني لـ«الأخبار»، قبل أن يوقف حديثه ليجيب على رسالة وصلته عبر تطبيق «واتس آب». يرد عليها كتابةً، يضع هاتفه جانباً، ويحرك قدمه اليمنى ليضعها في المكان المخصص لها على كرسيه المتحرك، إذ يعاني الشاب أيضاً من مشكلات في عظامه حرمته من السير. يتابع «أكثر ما يؤلمني ليس فقداني لحاسة البصر، بل عدم قدرتي على السير. قد يكون فقداني للبصر نعمةً كي لا أرى ما يراه المبصرون من مشاهد الحرب».