«كأنّو خلصت الحرب، وزبط كل شي بالبلد، وما بقي غير الأموات معطلين الشغل»، يقول أحمد لـ«الأخبار» بغضب. قبل أربع سنوات دفن الخمسينيّ الحلبي والدته المتوفّاة في إحدى الحدائق التي تحوّلت إلى مقابر عشوائيّة مؤقّتة في حلب، وسط ظروف أمنيّة وإنسانيّة بالغة السّوء. اليوم، يجد الرجل نفسه مطالباً بمراجعة «دائرة دفن الموتى»، التي وجّهت نداءً يطلب ممّن هم في مثل حالته مراجعتها «في أقصى سرعة ممكنة، للعمل على نقل جثامين ذويهم المدفونة في الحدائق والمنصّفات ضمن المدينة». على رغم الانفعال الذي يسيطر على أحمد، فإنّه يقرّ بأنّ استمرار الواقع الرّاهن «شي مو منطقي»، ويضيف: «بس كل شي بوقتو».
خطوة «لا بدّ منها»؟
إذا كان التوقيت «غير مناسب» وفقاً لحسابات الرجل الشخصيّة، فإنّ الأمر سيبدو مختلفاً لدى توسيع الصورة، والأخذ في الاعتبار أنّ عديد القبور العشوائية في أحياء حلب يراوح بين 5000 و5500 قبر، تتوزّع على الحدائق والمنصّفات، وبعض ساحات المساجد، وبعض الساحات الفارغة، وحتى داخل بعض الدور والمنازل! وعلى رغم أنّ الجهات الحكوميّة كانت قد تريّثت في نقل الجثامين، فإنّ المسألة تبدو محسومة اليوم لأنّ «استمرار الأمور على هذا المنوال أمرٌ غير منطقي ولا يتطابق مع المعايير الصحيّة العالميّة، كما يتعارض حتى مع مصلحة ذوي الموتى، فمن غير اللائق الإبقاء على رفاتٍ وفي منصّف وسط شارع عام مثلاً»، وفقاً لمصادر في «محافظة حلب». وتستند الإجراءات الوشيكة إلى «فتوى شرعيّة» صدرت عن «مفتي حلب» محمود عكّام قبل عام، خلاصتها «جواز فتح القبور قبل انقضاء المدة اللازمة لتحلّل الجثث والمقدّرة في سوريا بثمانية أعوام، شريطة اشتداد الحاجة لمثل هذا الإجراء».

عقبة الفقر
يقول «نائب رئيس مجلس مدينة حلب» أحمد رحماني، لـ«الأخبار» إنّ «إجراءات النقل ستتم على مراحل، والأولوية لنقل الجثامين الموجودة في الحدائق والمنصّفات»، أمّا تلك الموجودة في مناطق طرفيّة مثل «مقابر منيان» العشوائيّة (امتداد «حلب الجديدة») فـ«لن يتم التعامل معها حاليّاً». يوضح رحماني أنّ «مديريّة أوقاف حلب» خصّصت لهذه الغاية «1700 قبرٍ في المقبرة الإسلاميّة الحديثة (طريق حلب، الباب)، في المرحلة الأولى». ويضيف «المقابر القديمة (عددها 15 موزّعة على أحياء حلب) بمعظمها لا تحوي مساحات فارغة».
تُعدّ تكلفة نقل الجثامين باهظةً في حسابات عائلاتٍ تجهد لتحصيل لقمة عيشها

وتبيح الإجراءات للعائلات التي تمتلك مدافن في إحدى المقابر القديمة نقل جثامين موتاهم إلى تلك المدافن، «شريطة تسديد أجور فتح القبر ونقل الجثمان». ولن يكون مستغرباً أن تشكل «الأجور» عقبةً أساسية في طريق تجاوب شريحة من الحلبيّين، إذ تُعدّ التكلفة باهظةً في حسابات عائلاتٍ تجهد لتحصيل لقمة عيشها. تقول أم عبدو، وهي سيدة أربعينية تُعيل ثلاثة أطفال، وسبق لها دفن زوجها في إحدى الحدائق «عم يقولو القصة بتكلّف شي 100 ألف (ليرة)، إذا بشق حالي 100 ألف شقفة ما بيتأمن المبلغ معي». يعادل المبلغ المذكور 200 دولار، فيما لا يتجاوز متوسط الرواتب الحكوميّة حاجز الـ60 دولاراً، ويرزح أكثر من 80% من السوريين تحت خط الفقر العالمي (الذي يقدّر حاجة الفرد اليومية بـ1.9 دولار). يوضح «رئيس دائرة دفن الموتى» أحمد الصطّوف لـ«الأخبار» أنّ «نقل ودفن جثامين الشهداء وذوي الاحتياجات الخاصّة يكون مجانيّاً»، فيما يتوجّب الدفع على بقية الفئات.

مخاطر الضياع
يعي الصطّوف صعوبة المهمّة الملقاة على عاتق دائرته. «ملف المقابر العشوائية يشكل ضغطاً كبيراً، ونعمل بحذر شديد نظراً لحساسيته. التحديّات ليست سهلة، لا سيّما مخاطر ضياع رفات أو قبر». وتعوّل «الدائرة» على «تعاون الأهالي، فمراجعتهم لنا خطوة أساسيّة للدلالة على قبور أقاربهم، ونقلها بمعرفتهم». وعلى رغم عدم تحديد سقف زمني، فإنّ النوايا تتجه لنقل القبور التي لن يراجع أحدٌ في شأنها، بشكل جماعي في نهاية المطاف. لا ينفي الصطّوف احتمال «وجود قبور عشوائية بلا دلالات أو علامات تشير إليها، وهذا قد يتكشّف معنا عند بدء أعمال الحفر، خصوصاً في المساحات المكتظّة». ويشكّل هذا التفصيل أحد أبرز مخاطر العمليّة، لا سيّما في ظلّ انعدام إمكانية التوثيق الدقيق المستند إلى تحاليل الحمض النووي (DNA). يتحدث «نائب رئيس مجلس المدينة» أحمد رحماني عن «مشروع لتوثيق الجثامين المجهولة بعد إجراء التحاليل المطلوبة، ما يحفظ الرفات المدفون من الضياع إذا ما راجع في شأنه أحد ذوي المتوفّى مستقبلاً». لكنّ «رئيس دائرة دفن الموتى» يؤكد أنّ «هذا الإجراء مكلف للغاية، وتقدّر مديرية الصحّة تكلفة التحليل الواحد بـ600 ألف ليرة (1200 دولار)».

تُعدّ تكلفة نقل الجثامين باهظةً في حسابات عائلاتٍ تجهد لتحصيل لقمة عيشها

الأمر الذي يرجّح عدم تنفيذ الإجراء، ويحيل إلى أساليب ووسائل أقلّ موثوقيّة لدى التعامل مع الجثامين المجهولة الهويّة. يشرح الصطّوف تلك الوسائل: «لن ننقل الجثامين عشوائيّاً. سنحدد لكل حديقة موقعها في المقبرة الحديثة. نرسم مخططاً للمقبرة المؤقتة وتوزع القبور فيها، ونمنح القبور التي لا نعرف أسماء أصحابها أرقاماً. ثم ننقل إلى المقبرة الحديثة مع تحديد عائديّة كل جثمان (وفقاً للحديقة التي جاء منها) ورقمه على المخطط». ويضيف: «مستقبلاً، حين تراجعنا عائلة ما، سنرافقها إلى المقبرة المؤقتة للاستدلال على موقع القبر السابق، فنعرف موقع القبر الجديد». تفترض هذه الطريقة أنّ ذوي المتوفّين يحفظون مواقع قبور ذويهم بدقّة، بما يسمح لهم أن يهتدوا إلى القبور بمقارنة ذهنيّة لمواقع القبور في الحدائق، ونظائرها في «المقبرة الحديثة» اعتماداً على مخطّطات وأرقام! وتشكل تحاليل الحمض النووي عقدةً أساسيّة في ملف المقابر في جميع أنحاء سوريا (راجع «الأخبار»، 1 آذار 2019). ويبدو حلّ هذه العقدة من دون جهود منظمات إنسانيّة دوليّة أمراً بالغ الصعوبة.

ملفّ «عابر للمواقف السياسية»
ثمة مصاعب كثيرة أخرى تجعل مهمة «دائرة دفن الموتى» عسيرة، على رأسها الافتقاد إلى الكوادر البشريّة الكافية. ويؤكد الصطوف لـ«الأخبار» أنّ الدائرة خاطبت جهاتٍ عدّة طلباً للعون، ومن بينها «الصليب الأحمر». ووعدت المنظمة بـ«إرسال معدّات، وألبسة، وكمّامات، للكوادر البشرية التي ستقوم بالنقل، وأكياس للجثث». كما تلقّت «الدائرة» وعوداً بمدّها بـ«فرق شبابية متطوّعة» للمساعدة في عمليّات النقل. ولا يتجاوز عديد موظّفي «الدائرة» حاجز الـ33، معظمهم سائقون لسيارات دفن الموتى، ومشايخ، ومغسّلون. أما أفراد الكادر الإداري والعمل المكتبي فأقل من 10. وعلاوة على كل المصاعب اللوجستيّة، تبرز صعوبات كثيرة أخرى، تجعل إنجاز العمليّة «على أفضل وجه» مهمة شبه مستحيلة، ما لم يتمّ التعامل معها بخصوصية بالغة. وعلى امتداد العامين الماضيين اتّهم عدد من وسائل الإعلام (المعارضة) الحكومة السورية بـ«وضع خطط ممنهجة لجرف جثث المعارضين». وتشير الوقائع إلى أنّ عدداً لا بأس به من المقابر المؤقّتة في حلب أُنشئت أصلاً في أحياء لم تخرج عن سيطرة الحكومة السوريّة (التليفون الهوائي، المعرّي، الميدان، أوتوستراد الحمدانيّة، الأشرفيّة). وعلى نحو مماثل، تحضر المقابر في «الأحياء الشرقيّة» مثل بستان القصر، صلاح الدين، الهلّك. ويبدو جليّاً أنّ صعوبات الملف «عابرة للجغرافيا والمواقف السياسيّة»، إذ تتهدّد مخاطر الضياع كلّ القبور غير الموثّقة، بلا استثناء. وتتزايد تلك المخاطر في حال عدم وجود أقارب للمتوفّى يعيشون داخل البلاد، ليقوموا بمواكبة نقل جثمانه. يقول عماد لـ«الأخبار» إنّه قد دفن اثنين من إخوته في ساحة ترابيّة في «الهلّك»، قبل أن يغادر مع بقية أفراد عائلته إلى تركيّا، مع دخول الجيش السوري إلى المنطقة. ويضيف: «لا بقدر أروح أنقل الجثتين، ولا باقي حدا من العيلة بحلب، إشو الحل برأيك؟ وإشو بيضمن ما يجرفوهن؟ ولا شي».