دعاني موظف المؤسسة الاجتماعية إلى مكتبه المجاور لمكان سكني. بعد التحية والأسئلة الروتينية عن الحال، ورأيي بالطقس الشتوي الأوروبي البارد، باغتني بما لم يكن في الحسبان: «ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟» قال بأعصاب باردة.تلعثمت، ولم أعرف ماذا أردّ. كان السؤال أشبه بـ«فلاش باك» أعادني عشرين عاماً إلى الوراء، فمنذ ذلك الوقت لم يطرحه عليّ أحد. كنت تلميذاً في المرحلة الابتدائية، وكان السؤال تقليدياً متوقعاً من جميع المدرّسين.
فركت كفّي أحدهما بالآخر، وشبكت أصابعي، لعلّي أتذكّر بماذا كنتُ أجيب حينها. في الزمان الغابر، كان هذا السؤال صعباً أيضاً، لكنني لم أكن وحدي كما أنا الآن، كان الصف يعج بالتلاميذ، وبوسعنا أن نغش، إن لم تكن الإجابة حاضرة، نسرقها من بعضنا، أو «نقتبسها» على طريقة بعض «الأدباء». أما الآن، فأنا وحدي في غرفة صغيرة، أمامي طاولة، يجلس إليها موظف بلجيكي لا يعرف من العربية غير كلمة «مرحبا». ولست أدري بما يفكر تحديداً، إذ يعاين ارتباكي. هو، على الأغلب، يظن أن لغتي الهشّة قد خانتني، فلم أجد المفردة المناسبة لأجيب عن سؤاله. لو كنا نتحدث في شأن آخر غير المستقبل، كان ليساعدني كعادته حين يراني عاجزاً عن تذكر الكلمة المناسبة، فيخمّنها هو. لكن لا يحق له تخمين مستقبلي، فياء الملكية «اللعينة» تمنعه.
المستقبل؟ يا لها من كلمة رنانة! لو كنا ندري شيئاً عنه قبل عشرين عاماً، لقلنا للمعلم: «نريد أن نصير لاجئين»، واختصرنا كل سنوات الدراسة والتعب، ووفرنا على أنفسنا توتر ما قبل الامتحانات وما قبل صدور النتائج، وعلى أهلنا مصاريف المدارس والجامعات. لكنّ بيوتنا كانت دافئة وآمنة حينها، تضج بالحياة، ولم تكن طائرات «الديموقراطية» الأميركية قد دمرتها بعد. كنا نستشرف المستقبل من خلال ما حولنا، وما حولنا كان يُبشّر بمستقبل مشرق! أو على الأقل هذا ما خُيّل إلينا.
«ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟». «طبيباً كي أعالج الناس مجاناً»، ذلك قبل أن تتحول كثير من المستشفيات إلى مسالخ وأسواق بورصة، ويصبح بعض الأطباء «تجار أزمة»، لتكون أولى عملياتهم تخدير ضمائرهم ومن ثم استئصالها قبل أن تصحو.
«محامياً، كي أدافع عن المظلومين». قبل أن نكتشف تفشّي «الوباء» في دور القضاء، وتستحيل السجون قبوراً، ويصير بعض المحامين سماسرة للباطل.
«مهندساً كي أبني البيوت والعمارات وأحل مشكلة السكن». قبل أن يستحيل الاسمنت شظايا، وتسقط السقوف فوق رؤوس ساكنيها.
«طياراً كي أحلق في السماء، وأدسّ لحبيبتي رسالة بين المناشير التي تمجّد الثورة، وتؤلّه صانعيها»، قبل أن تُلقي حممها كيفما اتفق وتحصد أرواح أبرياء.
كان ما حولنا يُبشّر بمستقبل مشرق! أو على الأقل هذا ما خُيّل إلينا


«صحافياً، بائع حكي» أعطي اليائسين في بلادي جرعات حبر، تُزيّن لهم ماضي أجدادهم، وتُسكن آلام حاضرهم، وتعدهم بغد أفضل لأطفالهم. لكنّ الحبر استحال دماً، وكثير من الصحافيين احترفوا النفخ في النار، ليزيدوا أرصدتهم من «اللايكات» والدولارات.
كل هذه الصور باغتتني كسؤال الموظف الذي ينتظر الإجابة، لكن لا جواب.
تذكرت طفلاً سورياً لاجئاً في لبنان، سأله مدرب الرسم في ورشة الدعم النفسي «ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟»، وأجابه بثقة لا تشبه ترددي: «شهيد»! وجم المدرب، أطال النظر في الطفل، من دون أن يدري ماذا يقول. لعل الطبيب احتاج إلى من يدعمه نفسياً، بعدما صفعه الطفل بإجابته تلك.
لقد وُلد ذلك الطفل في ظروف أتاحت له استشراف المستقبل؛ أما نحن، فلا. أشدنا «تشاؤماً» كان يفكر بأن يصير فلاحاً بعد أن يرث أرض أبيه، لـ«يطعم جياع الوطن»؛ قبل أن تُغمس اللقمة بالدم، حرفيّاً لا مجازاً.
ليته كان عربياً هذا الذي يسألني عن المستقبل، كنت لأجيبه «عن أي مستقبل تتحدث، هل بقي لنا مستقبل لنفكر به يا هذا؟!». لقد سُرق مستقبلنا أمام أعيننا، وصارت أمنيتنا أن نخرج من تحت أنقاض أحلامنا التي انهارت فوق رؤوسنا، وأن نصل شواطئكم على قيد الحياة. يا سيدي، ضاع المستقبل مع أول رصاصة أُطلقت، وأول نقطة دم سالت، وأول أمّ ثُكلت، وأول زوجة رُمّلت، وأول رأس عُلق، وأول يد قُطعت، وأول امرأة رُجمت، ومع أول صيحة «الله أكبر» أضعنا الماضي والحاضر والمستقبل. أمهاتنا نذرننا للموت، علقنَ على أكتافنا كل ما في حوزتهنّ من تمائم، وقصصن جدائلهن حزناً علينا ونحن أحياء. نحن «أبناء عم الموت»، لم يبق لنا مستقبل نفكر فيه يا سيدي، فهذه البلاد باردة، ونحن نعشق حرارة اللقاء.
سألني عن «الشهادة». قلت: أشهد أن لا إله إلا الله!
أما الأوراق فقد غرقت في البحر. ليتني غرقت معها، لكنني ــــ لسوء حظي ــــ نجوت. وها أنا كما ترى جئت هنا لأمحو أميتي، ولأكتشف أن العالم الحقيقي هو غير الذي أخبرونا عنه في المدرسة، وأن كتب التاريخ والجغرافيا مزيفة، فهناك من يُغير الخرائط، ويرسم حدود الدول، ويوزع الانتصارات والأوسمة والبطولات كما يشاء، ومتى شاء. لو أنني غرقت معها لما كنت أجلس أمامك الآن، متلعثماً لا أدري ما أقول.
لملم أوراقه المفرودة أمامه، وخلع نظارته الطبية. نظر في عينيّ لأول مرة بلا حواجز، وقال: «اذهب، يبدو أن المستقبل صار خلفك».
قلت وأنا أصافحه مودعاً: «منذ أول رصاصة!».