بخفة لافتة، ينقل محمود حديد بَكرة الفيلم الذي يُعرَض في «سينما الدنيا» وسط دمشق، ثم يمنح العدسة نظرةً تختزل الكثير من الحزن و«النوستالجيا». يستحقّ الرجل لقب «شيخ الكار» بجدارة، فهو كبير العارضين السّينمائيين عمراً وتجربةً. أفنى ابن الثانية والثمانين أكثر من خمسين سنة في عرض الأفلام السينمائية، وتجهيز المعدات الخاصة بها، على امتداد الجغرافيا السورية. كان حديد شاهداً على بدايات السينما في سوريا، ويحتفظ اليوم بمعدات نادرة، وكنوز من التسجيلات القديمة لكبار نجوم الفن، قام بأرشفتها بعناية. كذلك أهدى «المؤسسة العامة للسينما» 1200 شريط فيلميّ. ثمّة الكثير من الذكريات موزّعة في زوايا غرفة العرض، من بينها صور تكريم له، وصور تجمعه بعدد من نجوم السينما، مثل نبيلة عبيد، التي تحرص على التواصل معه بين وقت وآخر، والاطمئنان عليه. يؤكد حديد لـ«الأخبار» أنّ «العارض السينمائي كان يحظى في الماضي بأهمية كبيرة، ويجب عليه بذل جهد كبير للوصول إلى مرتبة عارض». ويضيف: «كان الواحد يتدرج بدءاً من ماسح لآلة العرض إلى أن يقف أمام شيخ الكار ليمتحنه، ثم ينال بطاقة عارض. اليوم لم تعد لهذه المهنة الأهمية التي كانت تحظى بها من قبل». يتحسّر على الأيام الخوالي، قائلاً: «سابقاً كان بوسعك معرفة الموضة الرائجة للملابس والسيارات وغيرها، بمجرد وقوفك أمام صالة السينما. كان الناس حرصاء على ارتداء أجمل ما لديهم من أجل حضور فيلم سينمائي». ويضيف: «مع الأسف، لم تستطع السينما السورية إيجاد مكانٍ لها في هذا العالم».
يشرح الرجل بعضاً من تقاليد العرض في «الزمن الجميل». يقول: «حتى بين جمهور السينما كانت توجد طبقات. هناك من يحضرون العرض الأول فقط، ويجلسون في الدرجة الأولى. عادة ما كانوا من السياسيين والتجار وأغنياء البلد. ثم بعد قرابة عشرة أيام، أو شهر، بحسب رواج كل فيلم، يبدأ العرض للعموم في الدرجة الثانية». في تلك الأيام «كان بوسع أي شخص أن يشتري أفلاماً سينمائية ويعرضها. كانت هذه التجارة مربحة، لذلك سارع الكثيرون إلى إنشاء صالات السينما الخاصة بهم»، يقول حديد. ويردف: «كانت دور العرض منتشرة في ستينيات القرن الماضي بكثرة في معظم المحافظات السورية، وخاصة حلب ودمشق. حتى المدن والقرى البعيدة كنا ننقل المعدات إليها، ونعرض الأفلام فيها. وصلنا إلى قرى في محافظة الرقة». تبدّلت الأحوال كثيراً، و«انحسرت المهنة مع انخفاض عدد دور السينما، كذلك فإننا نلتزم الأفلام التي توردها إلينا وزارة الثقافة والمؤسسة العامة للسينما. إضافة إلى أن ظروف الحرب أثرت سلباً بالحضور والأفلام التي نعرضها». قبل اندلاع الأزمة في البلاد، قام حديد بـ«تركيب سينما الهواء الطلق في مدينة معضمية الشام، وكانت من أجمل التجارب».
بجوار آلة العرض فُتحت كوّة صغيرة في الجدار، تتيح مشاهدة جمهور الصالة، وقد اعتاد حديد النظر عبرها بين الفينة والأخرى. لكن الكوّة تطل اليوم على مشهد حزين، فمعظم مقاعد الصالة باتت فارغة. رغم ذلك، يقول: «لن أتعب من عرض الأفلام، حتى ولو لم يبقَ في الصالة سوى شخص واحد». ويضيف: «هذه المهنة أخذت كل حياتي، ولن أتقاعد ما دمت أستطيع حمل بكرات العرض، وتغييرها، وتشغيلها».