ضجّت الأسواق السوريّة بحملة مصادرات شعواء تستهدف «البضائع المهرّبة». لا شكّ في أنّ «مكافحة التهريب» إجراء حميد، فيما لو جاءت بالتوازي مع وجود منتج وطني قادر على المنافسة من حيث الجودة والأسعار والكميات بما يسدّ حاجات السوق. بمعنى آخر، إنّ توجيه الاهتمام الحكومي نحو دعم الصناعة الوطنيّة بحزم إجراءات حقيقية (لا بالشعارات فحسب)، وبما يضمن توافر السّلع بكميات وافرة وأسعار منافسة، سيكون كفيلاً بتحجيم إقبال المستهلك على البضائع المهرّبة تلقائيّاً، هذه وصفة بديهيّة وفعّالة. فالواقع يؤكد أنّ خروج دعم الصناعة من أولويات الحكومة، زاد الطلب على المواد المهربة، بسبب ارتفاع أسعار المواد المستوردة. هكذا، انتقلت المعادلة من حرب بين المنتج الوطني والسلع المهربة، إلى حرب بين السلع المستورَدة ونظيرتها المهرّبة. لقد استغلّ حيتان الاستيراد انكماش الإنتاج المحلي، وإحجام الحكومة عن دعمه بجديّة، ليسدّوا حاجة الأسواق ببضائع باهظة الأثمان. وبرغم أن سعر الصرف الحكومي (الذي يجري الاستيراد على أساسه) ظلّ ثابتاً، فإن حجة سعر صرف «السوق السوداء» هو السيف الذي يبتر قدرة المواطن الشرائية عند كل اهتزاز. المفارقة أنّ السلع المهرّبة حققت تنافسيّة سعريّة حقيقية. فمثلاً، لا يتجاوز ثمن علبة الأناناس المهرب 500 ليرة سورية، مقابل ما يراوح بين 750 و1000 ليرة للمستورد!إنّ وجوه المُعضلة اليوم تتمثّل في عدم قدرة المنتج الوطني على تغطية حاجة السوق، وعدم قدرته على المنافسة بالجودة والسعر، إضافة إلى منع استيراد سلع أساسية، وحصر استيراد سلع أخرى بتجّار محدّدين وترك المجال مفتوحاً أمامهم للتحكم بالسوق. يعكس الواقع مشهداً سورياليّاً: السوق متعطشة لكل شيء، والتوجه الحكومي هو محاولة تخفيض الطلب على السّلع، بدلاً من توسيع العرض لتحقيق منافسة الأسعار. القواعد الاقتصادية تكتب بالمقلوب هنا!
طيب، كيف تسير عمليات مكافحة التهريب؟ نحن نعالج عارض المرض عبر استهداف المحال التي تبيع بالتجزئة، لمصادرة البضائع وفرض الغرامات، بدلاً من علاج سبب المرض، وهو الفساد، وقطع المهرّبات من المصدر، أي المنافذ الحدوديّة. المفارقة، أنّ السلع المصادرة سرعان ما تعرف طريقها إلى السوق من جديد، بعد عرضها للبيع بموجب مزادات أو صفقات! «كأنك يا أبو زيد ما غزيت» إلا لتجبي الغرامات! هذه ليست مكافحة حقيقية للتهريب بقدر ما هي طريقة لفرض «الإتاوات»، ومن دون التفكير حتى بتجيير الأموال المجبيّة لمصلحة استثمارات صغيرة ومتوسطة تدعم المنتج المحلي. أما «المنافع» التي حصدها المواطن، فقد تجلّت في ارتفاع سريع لأسعار بعض السلع. مثلاً، ارتفعت أسعار الأحذية بمقدار 10%، وظلّت أسعار السجاد ثابتة، رغم أننا في نهاية الموسم الشتوي. كأنّ ما تجري مكافحته حقاً هو «جيوب المواطنين»! لا تُصادر بضاعة تاجر، إلا وقام برفع أسعار ما بقي لديه ليعوض خسارته من جيوب المستهلك. هل نسمي هذا إنجازاً اقتصاديّاً؟! لا هم دعموا البديل الشرعي، ولا هم سمحوا للبديل غير الشرعي بتغطية الحاجة، ولا أجروا تغييرات جذريّة في آلية التحكم السعري. ولا هم ضبطوا الحدود، فإذا مررت بأسواق المهرّبات بعد أيام من «الضربة الجمركيّة»، ستجدها قد عاودت نشاطها، وكأنّ شيئاً لم يكن!