تغيرت ملامح الطريق الدولي الواصل بين مدينتي حمص وطرطوس كثيراً. قُطعت مئات الأشجار من جانبي الطريق بهدف استخدام حطبها، وهو أمرٌ تفاقم أخيراً بفعل أزمة المحروقات الخانقة التي تضرب البلاد منذ شهرين، مصحوبة بزيادة ساعات انقطاع الكهرباء.يتجوّل جعفر رستم في مدينة حمص. تلزمه ساعة واحدة للمرور في معظم أحيائها، أو ما تبقّى منها. يعاين طوابير الناس المصطفّة على أبواب المخاتير، بانتظار قدوم «سيارة الغاز» الموعودة. في الشهرين الأخيرين باتت الطوابير جزءاً من معالم المدينة، وزاد حرص السكان على الاستيقاظ باكراً بغية «حجز مكان متقدّم في الطابور»، من دون أن يعفيهم ذلك من الانتظار ساعات طويلة، وأحياناً لأيّام متتالية. يقول الشاب الجامعي متندّراً «هو المكان الوحيد الذي تشاهد فيه كل أهالي حمص، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً. لقد وحّدتنا جرة الغاز».

«جدوى اقتصاديّة»!
نشأت مهنة جديدة بفضل الطوابير، هي «مهنة الانتظار»! ودأب العشرات على حجز أماكن أمام مراكز التوزيع منذ ساعات الفجر الأولى، وبيعها بعد ساعات بمبالغ تزيد كلّما كان الموقع أقرب من رأس الطابور. يوضح جعفر «تأتي عائلة بأكملها، تحجز أرقاماً مُتتالية، وتبيعها واحداً تلو الآخر، لتأتي في اليوم التالي، وتكرّر العملية... يصل أحياناً سعر الدور إلى خمسة آلاف ليرة سورية!». ويضيف «كذلك، صار معتاداً أن يتجمع عشرات الباعة الجوالين إلى جوار كل طابور! يبيعون الفستق والذرة ومياه الشرب وغيرها. تنتشر البسطات أيضاً قرب الطوابير، غيّر أصحابها التكتيك، وصاروا يذهبون إالى الزبائن بدلاً من انتظارهم».
نشأت مهنة جديدة بفضل الطوابير هي «مهنة الانتظار» (أ ف ب)

يستسلمُ جعفر في نهاية المطاف، ويرجع خائباً إلى منزله بلا أسطوانة غاز. تعودُ به الذاكرة إلى عام 2014، عندما كانت حمص تُعاني من أزمات خدمية حادة، ما اضطرّ أسرته إلى استخدام «التمز» للتدفئة. يشرح الشاب «التمز هو مكعبات مصنوعة من خلاصة بذور الزيتون، سريعة الاشتعال، وتعطي الدفء، وهي بديلٌ جيد من المازوت». ويضيف «في حمص اليوم مدافئ مخصصة للتمز، شاع استخدامها كثيراً، لوفرة التمز، ورخص ثمنه نسبياً. كان أهالي الريف قد اعتادوا استخدامه قديماً، لكنه انقرض تدريجياً مع انتشار وسائل التدفئة الحديثة، ليعود اليوم ويظهر مُجدداً».

حلب و«الأمبير»
اعتاد زاهر طحان، كباقي سكان حلب، انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، ولأيام وأسابيع وأشهر. مرّ أكثر من عامين على عودة كامل المدينة إلى السيطرة الحكوميّة، لكنّ التيار الكهربائي ما زال غائباً عن نصف المدينة الشرقي، وشحيحاً في النصف الغربي. يشرح زاهر (34 سنة) نظام التقنين الحالي «ساعتا تغذية، ثم أربع ساعات انقطاع، تليها ساعتا تغذية، فخمس ساعات انقطاع. أما في أيّام السّعد، فثلاث ساعات تغذية مقابل ثلاث ساعات انقطاع». لا يكترث طحّان لقطع الكهرباء بقدر ما يشعر بالغبن عندما يقارن وضع مدينته مع باقي المدن السورية، ويصفها بـ«المظلومة». يعتمد الحلبيّون على «الأمبيرات» (كهرباء الاشتراك). وتتمركز في الأحياء مولدّات ضخمة، ومتوسّطة، توزّع تياراً مأجوراً على المشتركين لعدد ساعات محدّد يومياً، ليغدو «الأمبير» مصدر الضوء والدفء! تبلغ تكلفة الأمبير الواحد 1500 ليرة أسبوعيّاً، وتحتاج الأسرة إلى أمبيرين اثنين لتشغيل الأساسيّات، وقد اضطرّ كثير من المشتركين إلى إضافة أمبير ثالث مع قدوم الشتاء، بغرض التدفئة. يقول طحّان «انتشر في حلب نوع من المدافئ لا تجده في أي مدينة سورية أخرى، مدافئ مطوّرة محلياً بثلاث شمعات، يمكن أن تعمل على تيّار الأمبير المنخفض. اعتدنا تسميتها: مدفأة الأمبير».

«راحت على الدرويش»
لليوم الخامس على التوالي يغيب صوت أبو منذر العش عن سكان حي الشاغور الدمشقي. هجر الرجل عربته التي كان يستخدمها لبيع الذرة، عقب استهلاكه آخر أسطوانة غاز كانت بحوزته.
يفكّر العشّ جدّياً في تغيير مهنته أو نوع البضاعة التي يبيعها. يقول لـ«الأخبار» «لم يخطر في بالي يوماً أن أوقف عربتي جانباً... اشتقت إلى الطلاب وأصحاب المحال وجيراني الذين كانوا يأكلون من عندي يوميّاً، واشتقتُ إلى أن أنادي على الذرة بصوت عال». يتحسّر أبو منذر حين يرى الأسطوانات تدخل واحدةً تلو الأخرى إلى محل بيع الشاورما المجاور، ويقول «لا يمكنني شراء الغاز من السوق السوداء كما يفعل بائعو الفراريج والشاورما، ثمنها باهظ ولا أقدر على تحمّله». تُعدّ أم منذر كأساً من الشاي باستخدام جهاز كهربائي صغير يسمّى محلياً «الطبّاخ»، ويضمن التسخين بدرجات حرارة عالية خلال فترة زمنية قصيرة. تعتمد أم منذر على «الطباخ» لإعداد طعام العائلة اليومي، وتنتظرُ التيار الكهربائي لكي تبدأ بالطبخ. تقول السيّدة الأربعينية «قسّمت نهاري بناءً على أوقات الكهرباء، لكي أتمكن من تشغيل الغسالة والمكواة ومضخة المياه، وفي المساء أشاهد التلفاز».
هجر الرجل عربة بيع الذرة عقب استهلاكه آخر أسطوانة غاز


يعمل الابن الأكبر للعائلة (منذر، 27 عاماً) في تصميم مواقع الإنترنت. يعتمد الشاب في عمله على الكهرباء بشكل كامل، وبات معتاداً التوجّه إلى المقاهي من أجل إنجاز العمل. يقول منذر «الذهاب إلى المقاهي يوميّاً أمر مُكلف، لكنني لا أريد أن يتوقف عملي كما توقف عمل والدي».

أحلام الشباب...
صمتت الجهات الحكوميّة طويلاً في بداية أزمة الطاقة الراهنة، قبل أن يكرّر العديد من المسؤولين الحكوميين والمحللين الاقتصاديين كلاماً يختصر أسباب الأزمة بـ«العقوبات الاقتصادية». يقارن المحلل الاقتصادي شادي الأحمد ما تشهده سوريا الآن بما شهده العراق في التسعينيات. وقال الأحمد في حديث مع إحدى الإذاعات المحليّة «نحن أمام مرحلة حساسة للغاية، نحتاج فيها إلى جيش اقتصاديّ كي نقدر على مجابهتها». يبتسمُ عمار (اسم مستعار) حين يسمع عبر المذياع عبارة «جيش اقتصادي». يبلغ عمر الشاب 37 عاماً، وقد أُدرج اسمه بين قوائم المطلوبين للخدمة العسكريّة الاحتياطية وتخلّف عن الالتحاق. وصدر أخيراً قرار بإعفاء المدعوين من مواليد عام 1981 وما قبل من الخدمة الاحتياطية، يقول الشاب «لم يخطر في بالي يوماً أن يكون أكبر أحلامي بلوغ الثامنة والثلاثين من العمر».