يحضر ملف «الدعم الاجتماعي» دائماً، وبتفاخر، في معظم الأحاديث الحكوميّة. تحرص بعض التصريحات على الإيحاء بأنّ مسألة «الدعم» تكاد تكون امتيازاً سوريّاً رائداً، يستلزم «امتنان» المواطن. والواقع أنّ أعتى الدول الرأسمالية لم تتوقّف عن توفير «الدعم» لمواطنيها، مع الحرص على وصوله إلى مستحقّيه، سواء عبر مبالغ نقدية، أو قسائم تغذية، أو «معاشات بطالة». في كثير من بلاد العالم يحضر الدعم المخصّص لقطاعَي الصحّة والتعليم، ولبعض السلع الأساسية (مثل حليب الأطفال). يُنظر إلى «الدعم الاجتماعي» على أنه «صمام أمان» للفئات الشعبيّة، لا سيّما «دعم الطاقة»، لأنها ذات تكلفة عالية، وتقدمه الحكومات حول العالم بمجموع يوازي 1000 مليار دولار سنوياً، بحسب «صندوق النقد الدولي». ويبلغ الدعم الذي تقدمه الحكومات العربية إلى شعوبها ما يوازي 5% من الناتج المحلي الإجمالي في الدول الصاعدة النمو، و1% من الناتج في الدول النامية الأفقر. في مصر مثلاً، يصل إلى 20 مليار دولار، وفي الجزائر إلى مليار يورو سنويّاً، وتحرص معظم الدول العربية على إعفاء حليب الأطفال من الضرائب (ومنها لبنان). أما في سوريا فيصل حجم الدعم إلى 1.5 مليار دولار، وهو بحساب النسبة والتناسب أقل حجم دعم في العالم العربي، إذ لم يصل إلى 1% من الناتج المحلي الإجمالي (المقدر بـ24 مليار دولار لعام 2018 بحسب كتاب «حقائق العالم»)، ما يعني أن مخصصات «الدعم» في سوريا ما زالت بحاجة إلى 900 مليون دولار لتصبح مساويةً لدعم حكومات أفقر الدول لشعوبها! ويشير الواقع بوضوح إلى أن ازدياد الكتل الماليّة المخصصة للدعم في السنوات الأخيرة، لم يتناسب مع حجم الارتفاع الهائل في أسعار السلع، بما فيها «السلع الحكوميّة». لتبسيط الصورة، نأخذ بعض الأمثلة: كان سعر السكّر المدعوم قبل عام 2010 عشر ليرات للكيلو الواحد، وارتفع اليوم عشرين ضعفاً على الأقل، ليكسر حاجز المئتي ليرة، رغم أنّه ما زال «مدعوماً». كان سعر ربطة الخبز 15 ليرة عام 2010، وسعرها اليوم 50 ليرة (تضاعف 3 مرات) وما زالت مدعومة. كان المازوت متوافراً بكثرة، وبسعر 7 ليرات لليتر الواحد، مقابل 180 ليرة اليوم (26 ضعفاً تقريباً) رغم أنه ما زال مدعوماً. أسطوانة الغاز كانت بـ250 ليرة عام 2010، وهي اليوم بـ2650 (أكثر من عشرة أَضعاف) وتُباع بـ8000 ليرة في السوق السوداء بسبب عدم توافر المادة. في المقابل، تضاعفت الرواتب ثلاث مرات تقريباً بحساب الليرة (من متوسط 10 إلى 30 ألف)، لكنها انخفضت بحساب الدولار من حوالى 200 إلى حوالى 60. وبحساب السوق التي تبني أسعارها على الدولار (بما في ذلك المواد الحكوميّة المدعومة) سنجده راتباً منخفضاً بمقدار 62% عمّا كان عليه! ملخص المشكلة أن تضخم أسعار المنتجات لم يترافق مع زيادة مناسبة في الدخل، وبحسب خوارزمية بسيطة، يحتاج الموظف الحكومي اليوم إلى زيادة قدرها 56 ألف ليرة لسدّ الفجوة! النكتة السمجة أن نصيب الفرد من «الدعم» لا يتجاوز 3 آلاف ليرة شهريّاً، وهو حاصل قسمة مخصصات «الدعم» السنوية (811 مليار ليرة) على متوسط عدد سكان 20 مليون شخص، فطريقة التوزيع لا تتوخّى معايير تضمن وصوله إلى الأشدّ فقراً، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الفرد ينبغي عليه أن يشتري سلعاً مدعومة (معظمها منخفض الجودة) بقيمة 13 ألف ليرة، ليحصل على دعم بقيمة 3 آلاف. نعم يحصل المواطن السوري على دعم شهري قدره ستة دولارات، ويتناول لقمته مغمّسةً بالتمنين!الأنكى، أن الأداء الاقتصادي ما زال يصر على تحويل البلاد إلى حقل تجارب، وغالباً ما تأتي النتائج مأسوية. ويبدو أنّ التجريب في حقل «الدعم» يستهوي الحكومات المتعاقبة كثيراً. راجت أخيراً شائعات حول عودة «قسائم الرز والسكر»، التي يعرفها السوريون باسم «البونات». (قسائم عائلية بحسب عدد الأفراد، يُشترى بموجبها الرز والسكر المدعومَين). وقياساً على تجارب سابقة، فغالباً ما تكون الشائعات مقدمةً لاتخاذ القرارات. ورغم أن «الكوبونات التموينية» كانت محمودة في ظل اقتصاد «الاكتفاء الذاتي»، فإن تطبيقها اليوم كفيل بإحداث مزيد من الآثار السلبية، وأبرزها:
• ارتفاع أسعار السلع غير المدعومة التي يشكل فيها السكر عنصراً أساسياً، (المربيات والحلويات وحتى حلوى الأطفال والخبز السياحي.. إلخ). فمنتجات السوق التي يدخل السكر في تصنيعها لن تكون مخصصة بـ«حصص صناعية» من تلك القسائم، وحصر الدعم بـ«القسائم» سيحرر أسعار السكر والرز لتوازي السعر العالمي، وبالسعر المحرر ستشتري المصانع حاجاتها.
• خلق سوق سوداء للسكر والرز. فالمادتان مستوردتان، وباب الاستيراد مفتوح على مصراعيه، وسيضطر المواطن إلى شرائهما بعد انتهاء مخصّصاته «المدعومة».
• بيع الكوبونات والاتجار بها، خاصة للسكّر. فالنقود لمواجهة الفقر الأسود وشراء الخبز هي أهم من السكر في نظر الفقراء، والكثير من المصانع جاهزة لشراء الكوبونات، بغية تحصيل سكر «مدعوم» لتخفيض الكلفة الإنتاجية (ومع ذلك تبقي أسعار منتجاتها مرتفعة).
• ازدحام شديد على مراكز توزيع الغذائيات الحكومية، وجعل المواطن أسيراً للطوابير أكثر فأكثر.
بالمناسبة؛ حين قرّرت إيران (ذات الاقتصاد الجبار) تخفيض «الدعم» لمواطنيها، كانت قد أعدت إحصاءً بـ17 مليون عائلة شديدة الفقر. تسلمت تلك العائلات مخصصاتها من الدعم السنوي نقداً، وتعهدت الحكومة باستمرار ذلك. هكذا تمت حماية الفقراء من التجويع، الذي يغدو نتيجة شبه حتميّة لدى تخفيض الدعم، أو حتى تغيير شكله.