الحسكة | لا يزال الموت «صديق السوريين الأوفى» للعام الثامن على التوالي! وإذا كان ضحايا نيران المعارك قد انخفضوا مقارنة بالأعوام السّابقة، فلدى الحرب الكثير من فنون الموت، بما في ذلك تبعاتٌ بيئيّة وصحيّة كفيلةٌ بتهديد أرواح شرائح من سكان البلاد لسنوات طويلة مقبلة. وليست فاجعة آل عرنوس بوفاة الأطفال السبعة في حي «العمارة» الدمشقي حرقاً «فريدة» من نوعها، إذ سبقتها حوادث مماثلة كثيرة في مناطق سوريّة عدّة. كان نصيب المحافظات الشرقية حرائق بالآلاف، ودّع إثرها أشخاصٌ وعوائل الحياة بعيداً من ضوء الإعلام. وسجّل مطلع العام الحالي وفاة الطفلتين دلفين كوتي وأسماء الحمزة في ريف الحسكة. إضافة إلى احتراق منزل بكامل محتوياته في مدينة الحسكة، واحتراق شقيقين في قرية التنورية بريف القامشلي. ثمّة قاسم مشترك بين كل تلك الحوادث، وهو استخدام المحروقات المكررة محلياً للتدفئة، في ظل غياب وصول المحروقات الحكومية عن المنطقة للعام السادس على التوالي. وتؤكد إحصاءات متقاطعة للمؤسسات الصحية أن «أكثر من ستة آلاف حالة احتراق نتيجة سوء المحروقات المستخدمة، سُجلت في محافظة الحسكة وحدها منذ بدء الحرب، قضى فيها أكثر من 400 شخص»، وهي ظاهرة تشهدها أيضاً محافظتا الرقة ودير الزور.
«مُكرهٌ أخاك»
في غرفة العناية في «مشفى القامشلي الوطني» يجلس والدا عبد العزيز وعبد الرحمن، الشابّين اللذين التهمت نار المحروقات جسديهما، ما أدى إلى حدوث تشوهات جلدية في الوجه والجسم. يقول الأب لـ«الأخبار» متحسّراً: «الله يرحم أيام قبل الحرب، كل شي كان موجوداً وبتراب المصاري. اليوم حتى دوا الحروق تدور كل الصيدليات وما تحصله». ويضيف: «المحروقات تأتي مخلوطة: بنزين ومازوت وحتى كيروسين، لكن مابي باليد حيلة، ولا بديل». بدورها؛ تقول زهرة، والدة الشابّين: «احترنا في أمرنا، أولادنا يبردون، وليس لدينا حل لتدفئتهم إلا بالمحروقات المتوافرة، التي ندرك أنها قد تحمل الموت لنا ولأولادنا».

الموت البطيء
لا تكتفي المحروقات المكررة محليّاً بالنيل من أجساد المضطرين إلى استخدامها، إذ تؤكد الدراسات أن هذا الاستخدام رفع أعداد المصابين بالأمراض السرطانية، ما يهدد حياة عشرات الآلاف من السكان. وتؤكد كل الدراسات التي تحدّثت عن هذه الظاهرة الطارئة على البلاد، أنها ستكون سبباً في ارتفاع نسبة التشوهات الخلقية لدى الأطفال، وستسبّب انتشار الأورام السرطانية بدرجة كبيرة، ما لم يتم تدارك الواقع الحالي. يلفت رئيس «الرابطة السورية لأطباء الأورام» د.محمد القادري، في تصريحات إعلامية، إلى مخاطر استخدام النفط بطرق بدائية وغير نظامية. ويقول إنه «من أبرز العوامل المسرطنة، ويساهم في انتشار الأورام بشكل تدريجي وبطيء على مدار سنوات»، الأمر الذي يؤكّده «مدير صحة الحسكة» د.محمد رشاد خلف. يقول خلف لـ«الأخبار» إنّ «المواد المنبعثة من المحروقات تُسبب طفرات جينية محرّضة على الإصابات السرطانية، وبخاصة سرطانات الجلد والجهاز التنفسي، وقد تستغرق سنوات للظهور». ويضيف: «الدراسات العلمية تتوقع تسجيل ازدياد بالإصابات في السنوات المقبلة». كذلك؛ يتحدث خلف عن مخاطر إضافية تتجسد في «التأثير على الجهاز التنفسي والتهاب القصبات، وهو ما تمّت ملاحظته خلال مراجعات المشافي والمراكز الصحية»، ويضيف: «هناك مخاطر أخرى محتملة، من بينها الفشل الكلوي، وتشمع الكبد».
تفتقر جميع مشافي المحافظات الشرقية إلى قسم متخصص في معالجة الحروق


لا تتوافر إحصائية دقيقة لأعداد مرضى السرطان في سوريا. ويبيّن مدير مشفى «البيروني» المتخصص بالأورام، د.إيهاب النقري، لـ«الأخبار» أن «1374 حالة سرطان تتلقى العلاج في المشفى من أبناء المنطقة الشرقية، منها 645 حالة قادمة من الحسكة وحدها». ويبدو الحصول على أرقام تقديرية شاملة مهمة شبه مستحيلة، في ظل وجود مشافٍ أخرى يقصدها المرضى، واضطرار كثير من المرضى إلى التداوي في مشافي شمال العراق (بفعل انقطاع الطرق البرية نحو مناطق سيطرة الدولة السورية لسنوات).

البيئة في خطر
لطالما ارتبط اسم الجزيرة السورية بالطبيعة الساحرة، وهي معروفة بأنها أرض الخُضرة والمياه. لكن الأمر بات جزءاً من الماضي، بعد أن خسرت تلك المناطق مساحات خضراء واسعة نتيجة احتطاب الأشجار عشوائياً، واستخدامها للتدفئة والطبخ. علاوة على ما يسبّبه استخدام المحروقات «المحليّة» من تخريب التربة، والإضرار بخصوبة الأراضي، وتهديد المخزون الأساسي للزراعة في البلاد. يوضح «مدير البيئة» في الحسكة، سامي إسماعيل أن «المحروقات المكررة بدائياً من أخطر مصادر تلوث الهواء والماء والتربة في الحسكة، كما أنها من مسبّبات التغير المناخي والاحتباس الحراري». يقول إسماعيل إن «تراكم الغازات التامة، نتيجة الحرق غير الكامل للوقود، يؤثر هرميّاً على الصحة العامة»، ويؤكد أن «الدراسات البيئية أثبتت أن هذه المحروقات أسهمت في ارتفاع نسبة التشوهات الجنينية والسرطانات والأمراض الجلدية والتنفسية».

غياب للمنظمات الدولية
تنتشر المنظمات الدولية بشكل مكثّف في مدن وأرياف المناطق الشرقية، سواء عبر موظفيها أو متطوعي الجمعيات المحليّة. وعلى رغم ذلك تغيب كليّاً حملات التوعية، ودراسات مخاطر استخدام المحروقات المكررة بطرق بدائية. كما تفتقر جميع مشافي المحافظات الشرقية، إلى قسم متخصص في معالجة الحروق، بعد خروج القسم الوحيد في «مشفى الحسكة الوطني» عن الخدمة، إثر سيطرة «الوحدات» الكردية. ويؤكد مصدر في مكتب «منظمة الصحة العالمية» في المنطقة الشرقية لـ«الأخبار» أن «المنظمة بالتعاون مع وزارة الصحة السورية بصدد افتتاح قسمين لمعالجة الحروق في القامشلي ودير الزور». يقول المصدر إنّ المكتب «اصطدم بغياب وجود مصدر بديل عن المحروقات المكرّرة محلياً. كما أنّ تحوّلها إلى وسيلة لعيش العاملين فيها، جعل مهمة التوعية صعبة للغاية».