لم تسمع الخالة أم نوري، السيدة المسنة القادمة من أقصى ريف الرقة الشرقي إلى مدينة حماة، برواية «الموت عمل شاق» للكاتب خالد خليفة، ولا تعرف شيئاً عن الروايات وحكاياتها. إلا أنها عاشت فصول روايتها الخاصة لتدرك أن «الموت عمل شاق» حقاً في بلاد لا تحترم جثامين من ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن. تلقّت خبر استشهاد ابنها نوري المفتاح، الذي كان يقاتل في صفوف الجيش السوري، فاتّشحت بالسواد، وقصدت المستشفى الوطني في مدينة حماة تسبقها دموعها لتسلّم جثمان فلذة كبدها. تسلمت الأم الثكلى تابوتاً خشبياً ملفوفاً بالعلم السوري، وبدأت رحلة البحث عن سيارة تنقل جثمان ابنها إلى مسقط رأسه في ريف الرقة الشرقي، لتصطدم بالإجراءات الروتينية التي لم يسبق لها أن عرفتها عن قرب. أخيراً، وجدت ضالتها في مديرية صحة الرقة (مقرّها حماة)، فخصّتها بسيارة مهترئة لنقل الجثمان. كان واضحاً أن السيارة غير مؤهلة للسفر في هذه الرحلة الطويلة، لكن الاحتجاج لا يجدي نفعاً مع البيروقراطية. طلبت والدة الشهيد سيارة أخرى إلا أن طلبها قوبل بالرفض، ولم ينصفها المسؤولون الوافدون حديثاً إلى المديرية، وما زالوا منشغلين بتوزيع المكاتب والسيارات في ما بينهم، ولا وقت لديهم لمتابعة شؤون الأحياء، فكيف بالأموات.
وضعت التابوت في السيارة المهترئة، وغادرت حماة وهي تنوح ودموعها منهمرة على فراق لا لقاء بعده. في الطريق الصحراوي حدث ما كانت تخشاه وتعطلت السيارة وسط البادية، وراح السائق يبحث عن وسيلة لإصلاح السيارة أو سحبها إلى أقرب نقطة مأهولة من دون جدوى، إلى أن ظهر عساكر من الجيش السوري، وسحبوا السيارة إلى أقرب حاجز وأصلحوها بأنفسهم.
نشرت «شبكة أخبار الرقة» فيديو قام شخص ما بتصويره، ظهرت فيه أم نوري متشحة بالسواد وجالسة إلى جانب سائق السيارة المعطلة في عمق البادية، تدعي وتبكي حالها وما جرى لها، كذلك ظهر في الفيديو جثمان الشهيد في مؤخرة السيارة، ملفوفاً بالعلم وقد لوّثه غبار البادية. ثم قامت إدارة الصفحة بحذفه من «فيسبوك» بعد أن أثار ردود فعل واسعة، وتهجم متابعو الشبكة على مسؤولي الرقة في تعليقاتهم على الحادثة.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار»، فقد خصّصت وزارة الصحة لمديرياتها في المحافظات سيارات إسعاف حديثة، ومنها سيارة لنقل جثامين الشهداء، إلا أن مديرية صحة الرقة أكدت في ردها على الحادثة: «وجود تعميم من وزارة الصحة يمنع السيارات الحديثة من السفر إلى المحافظات الشرقية أو السير في طرقات غير مؤهلة».