دمشق | «سأفتتح مشروعي التجاري الخاص» يقول أحد الصحافيين المقيمين في دمشق، بعد أن انحسر الصراع في أجزاء واسعة من البلاد. حال هذا الصحافي كحال كثير من الناشطين والعاملين في الحقل الإعلامي الذين نشطوا خلال سنوات الصراع الثماني، لكن عملهم تراجع بدرجة كبيرة في الأشهر الأخيرة.
«مهن الحرب»
أفرزت سنوات الصراع الدامية «فرص عمل» عديدة، ونشأت أعمال تجاريّة وصناعيّة ومهنٌ مُستحدثة تمكن تسميتها اصطلاحاً «مهن الحرب»، إذ تعتمد أساساً، بنحو مقصود أو غير مقصود، على تأثيرات أساسية أو جانبية لما يعيشه الناس في ظلّ الظروف الراهنة. مثل بيع «أمبيرات» الكهرباء المولّدة (كهرباء الاشتراك)، وشركات تأمين السيارات ضدّ القذائف، وشركات الحماية الأمنية الشخصية، ومكاتب مختصة بشراء تأشيرات السفر، وأسواق مخصصة لبيع المسروقات (أسواق «التعفيش»)، ومكاتب التهريب والسمسرة. وليس مستغرباً أن البعض يعدّ القتال مهنة أيضاً، تُتيح له الالتحاق بإحدى المجموعات لتحصيل راتب «محترم»! ومن جُملة ما خلقته الحرب، الحاجة إلى المعلومة والصورة، بتناسب طردي مع تسارع الأحداث وتزايدها، ما أفرز أيضاً مئات «الصفحات الإعلامية» والناشطين والعاملين في وسائل إعلام محلية، وعربية وأجنبية، تلهث وراء الخبر السوري، لكنّ الحال تغيّر أخيراً.

غبار الإهمال VS غبار المعارك
«أستيقظُ متاخّراً أو براحتي على الأقل، أذهب إلى النادي وأمارس الرياضة، أشاهد أصدقائي وقتاً أطول، وأتابع الأفلام والمسلسلات. هذا الجانب الجيّد من الحكاية، أما الجانب السيّئ، فإن المال بدأ يتناقص في جيبي»، يروي الصحافي يوسف قروشان (38 عاماً) حكايته مع حالته الجديدة. كانت أيامه مليئة بالعمل، متتبّعاً أثر القذائف، ومُلاحقاً لرائحة البارود على الجبهات، لكن المعارك اليوم انتهت، فأين يُصوّب «الكاميرا»؟
في دولنا العربية، الصحافة مهنة لا يُمكن الاطمئنان إليها


اعتاد يوسف تنظيف عدسات آلات التصوير في شكل دوري من غبار الميدان والمناطق التي يزورها. ما زال مواظباً على تنظيفها، لكن من غبار يتشكّل من قلة الاستعمال وبقاء أدوات التصوير على الرف. يعمل يوسف مع وكالات أجنبية عدّة، ومع منظمات دولية. لا يُخفي المصور الذي يزاول مهنته منذ عام 2012 اكتفاءه الماديّ حالياً، لكن السؤال لا يفارقه: «ماذا بعد؟». يقول لـ«الأخبار» إنّ «الصحافي المجتهد يعمل في كل الظروف، لكن بكل تأكيد لا يستطيع أن يرفع من قيمة الحدث السوري الذي تراجع تلقائياً من صدارة نشرات الأخبار، وعناوين الصحف العريضة. (...) القصص تتكرّر كثيراً، يكفي أن نغيّر فقط أسماء المناطق، لنسمع حكايات مكرّرة تنتقل من مكان إلى آخر». ويضيف مستدركاً: «ستبقى هناك بيئة للعمل، لكن ستصبح المهمّة أصعب، وعلينا التفكير مليّاً في العثور على قصة أو موضوع، وهذا تحدٍّ أحبّه». استشعر قروشان انخفاض كثافة عمله قبل أشهر، فعمدَ إلى تنظيف محلّ يمتلكه والده في حي باب شرقي، وأعاد فتحه مُجدداً في مجال بيع قطع السيارات. يواظب اليوم على إدارة المحل من دون أن يُبالي بمن قد يتحدّث عن «بريستيج الصحافي». يقول: «أنا مستعدّ للعمل في أيّة مهنة لتأمين عيش كريم لي ولعائلتي، العمل ليس عيباً مهما كان. (..) ومع ذلك لن أترك مهنة الصحافة التي علمتني الكثير».

الموظف الثابت ينجو
يلمس الصحافي تمّام حلاق تغيّر نوعيّة القصص التي يكتبها لإحدى الوكالات الآسيوية، فبعد أن كانت قصصه تتحدث عن قصف وسيطرة وحدود وضحايا، باتت اليوم تتمحور حول الاقتصاد والجندرة وإعادة الإعمار. يقول: «الحرب هي الحالة المؤقتة في كل العالم، والسلام هو الحالة السائدة في معظم الدول. ليس الطبيعي أن نكون صحافيين حربيين، بل أن نكون صحافيين ميدانيين مع الحدث، سواء كان حربياً أو مدنياً».
بدأ تمّام عمله الصحفي قبل سنوات من بدء النزاع في البلاد. يستذكرُ عمله في تغطية المؤتمرات واستطلاعات الرأي، والموضوعات المتعلقة بالزيارات السياسية والأحداث الاقتصادية المهمّة. يقول الشاب الثلاثيني: «الحرب تُفقد الوقت قيمته. تسارعت الأخبار كثيراً، واليوم تعود عجلة الأحداث إلى سرعتها الطبيعية شيئاً فشيئاً». ليست لدى تمّام مخاوف مماثلة لتلك التي تعتري زميله يوسف. يعزو ذلك إلى أن «الصحافي المثبّت بعقد قد يحظى باستقرار اقتصادي مقبول، خلافاً للصحافي الذي يقبض على القطعة (فريلانسر)».
هناك من يتمنّى لهذه الحرب... ألّا تنتهي!
الصحافية زهراء فارس، وهي مراسلة ميدانية لواحدة من القنوات العراقية، تقول: «لم يعد الاستثمار الإعلامي في سوريا الآن كما كان في السنوات الأولى من الأزمة (...) حتى المنظمات الدولية وجمعيات الاتحاد الأوروبي حدّت من تمويلها، بعد أن أنفقت آلاف الدولارات في ما مضى، وكانت تدفع الكثير مقابل تقرير أو صورة». تتحدّث فارس عن إغلاق مكاتب عشرات الوسائل الإعلامية في سوريا خلال الأشهر الأخيرة، لتبقى كوادر هذه الوسائل بلا عمل، أو تتجه نحو مهنٍ أخرى. وتبدو هذه التغيّرات دافعاً كافياً يحثّها على التفكير في مشروع تجاري، مع الإبقاء على مهنتها الصحافية. تقول: «مهنة الصحافة لا توفّر وارداً مادياً يحقّق ثباتاً أو استقراراً، ولا يمكن جني أموال طائلة من العمل الإعلامي (...) يبقى الإعلام شغفاً، لكن علينا إيجاد موارد مالية أخرى توفّر لنا الراحة الذهنيّة للإبداع في عملنا الإعلامي».
أما مدير إذاعة «شام إف إم» سامر يوسف، فيفرّق بين الإعلاميين والعاملين في الحقل الإعلامي. ويرى أن «بعض العاملين في المجال الإعلامي اقتاتوا على أخبار الحرب، لكنهم سيذوبون بمجرّد انتهاء الحدث الميداني، وهذا ما بدأ يحصل فعلاً». يقول لـ«الأخبار»: «في الأزمات، وسائل الإعلام تطلب الأخبار، وهذا الأمر ليس معقداً، يمكن الكثيرين نقل معلومات عن تفجير أو حدث ميداني طارئ، لكن المهارة في خلق القصة والبحث عن الحكاية بعد أن تهدأ نيران الحرب (...) صدقني، هناك من يتمنى لهذه الحرب ألا تنتهي». لا يخشى يوسف (47 عاماً) على مؤسسته، ويوقن أن «المؤسسة الذكية تتكيّف مع الظروف»، لكنّه أيضاً ينصح الصحافي «بتأسيس مشروعه التجاري الخاص». يقول: «في دولنا العربية، الصحافة مهنة لا يُمكن الاطمئنان إليها، أو الاعتماد عليها».



بعد السياحة والصحافة... «ورشة بلوك»!
تغيّرت مهنة سامي (يفضّل عدم ذكر عائلته) في ظل الحرب. وبعد أن كان مُرشداً سياحياً لأكثر من عشر سنوات، أمسى سائقاً لوفود الإعلام الأجنبي، مستغلاً إجادته اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ومعرفته بطرقات السفر الدولية. يقول الرجل الأربعيني: «توقّف مجيء السياح في منتصف عام 2011. لم يكن أمامي سوى البحث عن عمل آخر، ووجدتُ السوق الإعلامي حينها مُغرياً للغاية».
تمكّن سامي من ادّخار بعض المال في السنوات الماضية. أما المفاجأة فهي طبيعة المشروع الذي يخطّط لافتتاحه في بلدة عربين في الغوطة الشرقية. يقول: «سأنشئ ورشة لصناعة البلوك (القرميد) في قلب الغوطة، وسأضع فيها من يُشرف عليها (...) التجارة تدوم أكثر من الإعلام، والمشروع رابح مئة بالمئة، ولا سيما أن الجميع يريد أن يُصلح منزله أو محلّه».