في الظاهر، تبدو بنات الليل بحالة جيدة وهنّ يشربن «البيرة» بعد ليلة طويلة مليئة بالزبائن مع عودة الأندية الليلية إلى نشاطها بعد توقف قسري فرضته الحرب التي انتشرت على حوافّ مدينة جرمانا وأطرافها. أما في المضمون، فيبدو أن ليالي الفتيات كانت مليئة بالكذب كما سابقاتها. ليس الكذب فحسب، بل بيع الوهم أيضاً. لا تتحدث فتيات الليل عن السقوط الأخلاقي في هذه الأندية، فـ«دينا» تبرّر عملها بالظروف الصعبة التي أجبرتها على ذلك. أما «الزبون» فيبررها بغياب مبرر الوجود ما بعد الحرب، حيث ازدهرت السوق بتجار يبيعون الإحباط واليأس بالجملة، كما يبيعون السكّر والأرز. يقول «جون» وهو من مرتادي أحد الأندية في شارع النسيم : «أنا عاجز عن الاستمرار من دون كأس يمحو تعب الأمس، هكذا تتكرر أيامي في دوامة من الضجر».أبو الحكم يعضّه الحنين إلى زمن المدينة القديم الذي يصفه بالنقي، رغم ذلك ومع كل التشوهات التي أصابتها «لا أقوى على هجرها»، يقول الرجل السبعيني. ويضيف: «لا سمك في هذه المدينة لاصطياده، ولا شاطئ ولا رمال، مع ذلك، كل ما فيها يجذبني، فوضاها، زبالتها، حافلاتها المكتظة، كلابها الهزيلة الشاردة، حفرها العشوائية، لهجات نازحيها وقاطنيها الموزعة بين الدير والرقة والسلمية والساحل والسويداء والغوطة».
الحديث عن جرمانا يعني مسبقاً الحديث عن مدينة الملاهي الليلية وعن ليل «بناتها». مدينة تعيش خارج النظام الاجتماعي السائد في مثيلاتها من المدن السورية. كبُرت المدينة وامتدت وأكلت العشوائيات ما بقي من حورها. استقبلت اللاجئين والنازحين وأهل البلد، وتغيّر سكانها وتعددوا وتنوعوا، لكن سمعتها لم تتغير. سمعتها هذه منعت الكثيرين من السكن فيها ما قبل الحرب. فالمدينة وفق ما يقوله البعض من قاطنيها تغيّرت وتغيّر زمنها كما عاداتها وثقافتها. البعض شبّهها ببيروت، وبشجاعة أطلق عليها آخرون لاس فيغاس.
«إلى هذا الحد وأكثر أصابها التغيّر وأصابنا»، يقول رضا وهو من سكان جرمانا «الأصليين»: «لا أحد سيصدق أن هذه المساكن العشوائية التي أكلت المدينة كانت أشجاراً تحمل ثمراً قبل سنوات من الآن إلا سكانها الأصليين الذين ولدوا وعاشوا هنا، وكانوا شهوداً على مراحل اختفاء الريف وموت المدينة على يد السكان الخارجين من عجقة الحياة وضجيجها». يضيف رضا: «بات عادياً أن يقترب منك شاب يركب دراجته النارية ليسألك أمام جمعٍ من الناس عن بيت للدعارة يأوي إليه لساعات، وهذا لم يكن في يوم من الأيام عادياً في حياة سكان المدينة سابقاً. بات عادياً أن ترقص الطبلة في أذنك وأنت تنظر الى إنسان ينزف دون أن يتحرك لديك ذاك الشيء الموجود في أعماقك، ربما كان اسمه في ما مضى الإحساس».
تحولت جرمانا إلى عراق صغير ما بعد الغزو الأميركي عام 2003، دخل على إثره مليونا لاجئ إلى سوريا توزعوا على عدة مناطق كان لجرمانا النصيب الأكبر منهم. يشرح «فضل» كيف فرض العراقيون بما يحملونه من عادات وتقاليد وبيئة ولهجة أسلوب حياتهم، وغدا نمطاً حتى، وإن لم يكن لهم هذا التأثير المباشر في البداية، إلا أنه شكّل مع الوقت نمطاً للثقافة المحمولة على أكتاف مكتنزي الثروات من الهاربين من الرئيس الراحل صدام حسين. يفسّر فضل: «كان العراقيون بنظر سكان المدينة المحليين العنصر الغريب الذي يتصرف على هواه، ونتائج هذه التصرفات لم تكن تستحق الاهتمام من أبناء المدينة لكونها صدرت عن هذا العنصر الغريب، فهذا حاتم العراقي معروف بصوته العالي، ينام في النهار ويصحو في الليل. حتى عادات الطبخ يمارسها في الليل، الدنيا عنده كما لو أنها رمضان دائم».
عدم الاهتمام بما يصدر عن العراقي «الغريب» سيتحول لاحقاً إلى ثقافة، وبعدها سيصبح السوري القادم من «الخارج» أيضاً «عنصراً غريباً»، ولن يكون ما يفعله محطّ اهتمام من سكان المدينة، وسيكتفي كل منهم بما يعنيه هو حصراً على مبدأ «اللهم أسالك نفسي»، وسيتحول ليل غنوة العراقية الهاربة من حربها وفقرها إلى ليلٍ طويل لعدد كبير من السوريات الهاربات من ظروف الحرب والفقر أيضاً. وستتكاثر الأندية وتتسع رقعتها على طريق «النسيم» وتصبح علامة للمدينة الجميلة. هكذا بدأت العزلة وزاد الانطواء، وعلى العكس من توقّعات الكثيرين بزيادة التضامن بين الناس خلال الأزمة، فإن الغالبية ستعتبر نفسها غير معنية بكل ما هو خارج دائرة اهتمامها ودائرة المقرّبين منها.