«الكرتونة البيضا»

  • 0
  • ض
  • ض

حين وقعت عيناي على «الكرتونة البيضاء» أصابني ارتباكٌ كبير. كنتُ قد تلقّيتُ مكالمةً من سائق ميكروباص ينقل الركّاب بين مدينتين سوريّتين، يطلب مني ملاقاته في «الكراج» كي أتسلم أغراضاً شخصيّةً أرسلها أحد أقاربي. ويبدو أنّ المرسلَ أراد تجميع الأغراض في علبة واحدة، وهكذا وجدتُ نفسي وجهاً لوجه مع «الكرتونة». مرّت لحظاتٌ (ربّما كانت دقائق) والسائق ينظر إليّ بصبرٍ نافد. كانت العلبة في الأصل واحدة من تلك التي توزّعها المنظّمات الإغاثيّة مملوءةً بالمعونات، حملتُها، وابتعدتُ نحو زاوية خاوية. وضعتُها أرضاً، ورحتُ أبحث حولي عن أي شيء يفيدني في تغليف العلبة التي بدت لي أشبه بتهمة عليّ التعمية عنها. استيقظ شيءٌ من وعيي، وراح يحاكمُ بالمنطق مسألة الارتباك هذه. أول ما خطر لي أن السرّ يكمن في أنّ الحرب لم تروّض عنصر «العنجهيّة البشريّة» فيّ، خاصة أنني كنت واحداً من المحظوظين الذين لم يصطفّوا يوماً للحصول على معونة. مرّت في البال أسماء أشخاص كُثرٍ أعرفُهم، ويتفوّقون عليّ في كثير من الأشياء، وأعرفُ أنّ الحرب عقدت علاقةً بينهم وبين هذه العُلب، تنهّدتُ، ثمّ حملت العلبة خارج «الكراج». بينما أنتظر سيّارة أجرة لم يفارقني الارتباك، قلت: «لعلّه الخجلُ من أن يراني أحدٌ يعرفني، فيظنّ العلبة مملوءة بالمعونات التي لا أستحقّها». تذكّرت منظر عشرات السيارات «المفيّمة» وقد اصطفّت أمام مراكز التوزيع، وراح أصحابها يملأون صناديقها بالعلب، فقرّرتُ أن أقلّد وقاحتهم، ورسمتُ ابتسامةً واثقة على وجهي. ركبت سيارة الأجرة، وأنا أسترجع حكايات أهل حلب عن «الكراتين البيض» تحديداً، وعن أنّ القائمين عليها لا يوزّعونها إلا لأصحاب الواسطات والمدلّلين. بدا لي شكل الصليب والهلال الأحمرين مرسوماً على واجهة «الكرتونة البيضا» أشبه بنكتةٍ عن «الفسيفساء، وعناق الصليب والهلال»، ولا سيّما في ظل الزوبعة «الوقفيّة» التي تشغل السوريين اليوم. قادني تداعي الأفكار إلى تذكّر حكاية الشهيد الذي فُقد جثمانه في اللاذقيّة بفضل «الهلال الأحمر»، في قضية لم يرشح شيءٌ عن تطورّاتها سوى احتمالات عقوبة طاولت بضعة أشخاصٍ واقتصرت على سحب امتيازات وتغيير مناصب. حتى أهل الشهيد امتنعوا عن الخوض في هذا الحديث، رغم محاولاتي المتكررة. شطح بي خيال «الشعراء والغاوين»، وتخيّلتُ «الكرتونة البيضاء» كفناً لم يحظَ به جثمان ذلك الشهيد المفقود. نفضتُ رأسي، وراح لسانُ حالي يقول لي ساخراً: «مو ناقص غير تعمل من الكرتونة سيرة وطن». كدتُ أقهقهُ، لولا أنّ عيني وقعت على جملة «غير مخصّص للبيع»، واسترجعتُ مشهد كثر من أبناء جلدتي يبيعون معوناتهم على الأرصفة. حسناً، إنّها سيرة وطن على الأرجح!

0 تعليق

التعليقات