أصدرت الحكومة السوريّة قبل أيّام «التعليمات التنفيذية لمشروع إقرار الموازنة العامة لعام 2019» تمهيداً لعرضها على السلطتين التنفيذية والتشريعية، ثمّ إقرارها. تبدو المادة الإعلاميّة التي تداولتها معظم وسائل الإعلام السوريّة حول هذه التعليمات كأنّها صُنعت في مطبخ واحد حرص على إبراز نقاط بعينها، وإمرار جُملة هنا وأخرى هناك بطريقة تُحاكي «التسلّل» في عالم كرة القدم. من بين أهمّ «التسلّلات» يبرز ما يتعلّق بـ«إعادة الإعمار» ومهمات «لجنته». توحي التعليمات التنفيذيّة بأنّ «لجنة إعادة الإعمار» يُراد لها أن تقوم بدور أشبه بدور «الحاكم الاقتصادي للبلاد» مستقبلاً! تتضمّن مهمات اللجنة «توزيع مخصّصات إعادة الإعمار على الوزارات الوجهات العامّة»، و«تحديد الاعتمادات المطلوبة لمشاريع الجهات العامة ذات الطابع الاقتصادي». أمّا «الصفعة» الأشدّ إيلاماً فكانت في أحد الموارد التي ستلجأ إليها اللجنة وهو «القروض الخارجية التي يمكن السحب عليها خلال العام والتسهيلات الائتمانية المتاحة لها»! هكذا ببساطة، هناك من يفكّر في إطفاء «بقعة الضوء» الاقتصادية الوحيدة المتمثّلة بخروج البلاد من الحرب بحجم دين عام بسيط ولا يشكّل خطراً سياديّاً («الأخبار»، 13 حزيران 2018). إنّ المخاطر التي يؤسّس لها هذا البند لا تقتصر على التمهيد لاعتماد «الديون الخارجيّة» مورداً أساسيّاً لتمويل «إعادة الإعمار» فحسب، بل تنسحب أيضاً على تحويل مسألة بالغة الحساسية كهذه إلى «مهمّة لجنويّة» بسيطة، يُترك «الحل والعقد» فيها لـ«لجنة إعادة الإعمار». إنّ ملف «الديون الخارجية» هو أهم المواضيع السيادية لأي دولة، فالاستدانة تتبعها مرفقات الدين من الفوائد والتدخل بالسياسات الاقتصادية والمشاريع وإدارتها والاستثمارات الطويلة الأمد والـ«b.o.t» لعشرات السنين خدمةً لهذا الدين. و«الدين العام» كفيلٌ بقلب الكيان الاقتصادي مستعيضاً عن استجرار قطع أجنبي لدعم الاحتياطي وسعر الصرف وتشجيع التصدير إلى إرهاق الشعب بأكبر قدرٍ من الضرائب في سبيل دفع فوائد هذا الدّين!
ملف «الديون الخارجية» هو أهم المواضيع السيادية لأي دولة

ألا تشكّل تجارب اليونان ودبي والبحرين ومصر ولبنان والأرجنتين وإيطاليا وغيرها عِبراً كافية؟ إنّ البلاد التي توشك على الخروج من حرب طاحنة من دون أن تغرق في الديون هي بلاد رابحةٌ مهما بلغت خسائرها، فأين «الحكمة» في التخطيط للانتحار في بحر «الديون الخارجيّة» في أيّام السلم الموعودة؟! هل يعدُنا القيّمون على الاقتصاد السوري بتكرار التجربة اللبنانيّة في مسألة الدين العام؟ هل سيستيقظ السوريّون مستقبلاً على «بشرى» مفادها أنّ «لجنة إعادة الإعمار» استدانت من هذه الدولة وتلك المملكة أرقاماً فلكيّة تُحتّم تقلّص الرواتب (البالغة التواضع أصلاً) ومضاعفة الأسعار مرّات إضافيّة والذريعة جاهزة: «علينا ديون خارجيّة». أم أننا سنلجأ إلى الاستدانة من «صندوق النقد الدولي» لتتسرّب الموارد الوطنيّة في سبيل «دفع فوائد الدين» فحسب، وبمجرّد التقصير في السداد ندخل في نفق الضغوط الخارجيّة تمهيداً لتسلّم «صندوق النقد» زمام البلاد ومشاريعها الاقتصاديّة؟! وهل سينفع حينها ضربُ كفّ بكف والتبرير بأنّ «التوفيق جانبَنا» و«الحظّ خاننا»؟ أم أنّ هناك من سيتذكر الحكمة الشهيرة «ما خانك الأمين، لكنّك ائتمنت الخائن» قبل «وقوع الفاس بالراس»؟