رغم الضرر الفادح الذي ألحقه اليوم مصرف لبنان والمصارف الخاصة بمعيشة اللبنانيين، ما زال حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف ومديرو الصف الأول ـ أقلّه حتى كتابة هذه السطور ـ بمنأى من المحاسبة، وما زالوا يستأثرون، الى جانب شركائهم من الطبقة الحاكمة، بالثروة، وما زالت أجهزة الدولة القمعية تؤمّن لهم ولممتلكاتهم الحماية. لكن سطوة المصارف تتعدى ذلك لتشمل البنية المؤسّسية الناظمة للقطاع المالي بمعزل عن الأشخاص، وتشمل أيضاً الأيديولوجية السائدة عن الاقتصاد السياسي عمومًا، كعلاقة الدولة بالقطاع المصرفي والاقتصاد «الحرّ»، في مقابل الاقتصاد الموجَّه. لذا، لا يمكن إحداث تغيير جذري في بنية القطاع، ما لم يتم فهم جذور تشكيلها تاريخياً، وعلى رأسها فترة تأسيس جمعية المصارف ومصرف لبنان بعيد الاستقلال، وما دار حينها من صراع حول مشروع النقد والتسليف، في الخفاء والعلن، وذلك بحسب الوثائق التاريخية، بما فيها الأرشيف الأميركي. هذا ما يتناوله بالتفصيل كتاب دولة المصارف: تاريخ لبنان المالي، الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية (٢٠٢١). «الأخبار» تنشر مقتطفاً من فصله الثالث على جزأين، وبتصرّف

كان الموقع الاجتماعي للأخوين ريمون وبيار إدّه في فترة ما بعد الاستقلال مثاليّاً للدفاع عن امتيازات النخبة الماليّة في بيروت، وحماية مكاسبها؛ لكونهما نتاج مزاوجة المال بالسياسة. كانت أمهما لودي سرسق تنتمي إلى إحدى أغنى عائلات التجّار والملّاكين في المدينة. وكان والدهما إميل، المحامي المحنَّك الذي أصبح رئيساً للبنان عام 1936 تحت حكم الوصاية الفرنسيّة، ينحدر من عائلة عملت في مجال التدوين والترجمة القنصلية في المرحلة العثمانيّة. وقد نُبِذ إدّه الأب سياسياً عام 1943 حين قاد عدوُّه السياسيُ اللّدود، والمتدرّجُ السابق في مكتب إده للمحاماة، بشارة الخوري، الحركة من أجل الاستقلال عن فرنسا، وأصبح رئيساً. ولم يتعافَ نفوذ إميل إده السياسي في ما بعد. لكن ولديه تمكّنا من دخول المعترك السياسي ضمن التيار المتصاعد المعارض للخوري في أوائل الخمسينيّات، ففاز بيار وريمون إدّه بمقعدين نيابيين أول مرّة عام 1951 وعام 1953 على التوالي. وفي عهد خلف الخوري، شمعون، أصبح الأَخَوان إدّه سياسيَّينِ بارزينِ، ومدافعين متحمّسين عن الاقتصاد الحر، أوما بات يُعرف بالجمهوريّة التجارية، ومحرّكها الاقتصاديّ، القطاع المصرفيّ. كان الأخ الأكبر، ريمون الذي خلف والده في قيادة حزب الكتلة الوطنيّة، مهندس قانون السريّة المصرفيّة عام 1956، وهو القانون الذي أمّن دفقاً كبيراً من رؤوس الأموال من دول النفط العربيّة الثريّة، وقد عدّل ميزان علاقات القوى بين الدولة والقطاع المصرفيّ لمصلحة الأخير. أما بيار، الأقل شهرة من أخيه، فشغل منصب وزير المالية، ثلاث مرات في عهد شمعون، وترك بصماته المؤسَّسيّة على تدعيم سلطة المصارف بعدما ترك الحكومة عام 1958. ومن منصبه الجديد والقوي النفوذ في رئاسة بنك بيروت الرياض، تولّى قيادة أول مجهود ناجح لينظّم المصرفيّون اللبنانيّون صفوفهم. ففي عام 1959، وهي السنة نفسها التي أنشئ فيها مجلس النقد والتسليف لتنظيم القطاع، تم تأسيس جمعية مصارف لبنان، وهي أول جمعية من نوعها في العالم العربي. ومن خلالها، امتلك بارونات المصارف إطاراً هيكلياً مستداماً للتدخّل في سياسة الدولة والهيمنة عليها في نهاية المطاف، دفاعاً عن مصالح القطاع المصرفيّ كله.

لوبي «الجمعية»
بعد مرور نصف قرن على تأسيسها، تدّعي الجمعية أن نمو القطاع المصرفيّ، والحاجة إلى «تنظيم المهنة المصرفيّة، وتحصينها، وتطويرها»، هي الحوافز الكبرى التي حدت إلى إنشائها. لكن استناداً إلى أول تقريرين سنويّين للجمعيّة، كانت الأولوية هي مواجهة المخاطر التي تهدد مصالح أصحاب المصارف، المخاطر الخارجيّة (تنظيم الدولة للقطاع) والداخليّة (النشاط النقابي) على السواء. فقد أشارت المادة الثانية من نظام تأسيس الجمعيّة بوضوح، إلى أنّ هدفها «إيجاد تعاون بين أعضائها... لتأمين الدفاع الجماعي عن مصالحهم، ولهذه الغاية تأمين التمثيل الجماعي لأعضائها لدى الإدارات العامة أو غيرها» وكانت الجمعيّة ناجحة جداً في هذه الأغراض، فتطوّرت في وقت قياسي إلى واحدة من أقوى اللوبيات في البلاد. وبقي مديروها التنفيذيّون وعدد اللجان الفرعيّة المتزايد، متابعين للتطورات المتعلقة بالمصارف في لبنان وفي الخارج.
أصدرت الجمعيّة في سنتها الأولى من العمل مذكرات إلى المصارف الأعضاء عن القوانين الخاصة بالمال، وأنهت إضراب نقابة موظفي المصارف، وعارضت مشروع قانون للضمان الاجتماعي في لبنان، ووضعت عريضة لمنع تأميم الفروع الخارجيّة لمصارفها الأعضاء في الجمهوريّة العربيّة المتّحدة. وانتهى إضراب دام أربعة أيام لموظفي المصارف المطالبين بزيادة الرواتب، بإعلان مشترك بين الجمعيّة ونقابة الموظفين. وقد أعربت خمسة من أكبر المصارف المرتبطة بفرنسا، وهي لم تكن من أعضاء الجمعيّة، دعمها لجهودها، وتبنّت الإعلان المشترك. وفي خريف عام 1964، ذهبت الجمعيّة بعيداً إلى حدّ عقد اتفاق كتمان مع نقابة الصحافة اللبنانيّة، لإسكات انتقاد المصارف.
كانت هناك ثلاث مجموعات نافذة من رجال الأعمال تتسابق لاكتساب مواقع مؤاتية حيال المصرف المركزيّ، نظراً إلى «السلطة الهائلة» التي يمكن اكتسابها بالسيطرة على مثل هذه المؤسسة


غير أن التحدي الأكبر الذي واجهته الجمعيّة في سنوات نشوئها، هو حملة قادتها الدولة لتنظيم القطاع المصرفيّ، من خلال إنشاء مصرف مركزيّ. ومن جراء الموقف التفاوضي الذي وقفته الجمعيّة تجاه مسودة قانون النقد والتسليف، التي كان يضعها مجلس النقد والتسليف المُنشأ حديثاً، أدّت ضغوط الجمعيّة من أجل التأثير في عمليّة وضع مسودة القانون، من خلال مجلس النقد والتسليف، إلى إحياء الخصومات القديمة بين الفصائل المصرفيّة على مسألة إشراف المصرف المركزيّ، وغيّرت تطوّره. وفي نهاية المطاف، نجحت ضغوط الجمعيّة في ألّا تزعزع نظم المصرف المركزيّ ما سمّاه بيار إدّه الأساس الذي «لا يُمَس» للقطاع المصرفيّ، أي: قانون السريّة المصرفيّة.

صراع خفيّ وراء تأجيل تأسيس «المركزي»
شكّل تقرير الخبير المالي فرانس كيسينغ إلى صندوق النقد الدولي عام 1955، عن «النظام النقدي والمصرفيّ اللبنانيّ»، واحداً من الدعوات الرسميّة الأولى الرفيعة المستوى، إلى إنشاء مجلس نقد وتسليف من أجل تنظيم المصارف في لبنان، التي كانت محكومة بقانون التجارة في حينه. وكانت الأقسام الوزارية في الدولة اللبنانية، مثل مجلس التصميم والإنماء الاقتصادي، قد أيّدت هذه المقترحات ووضعت مذكّرة من أجل جمع إحصاءات، بينما كانت الأحزاب السياسيّة تطالب علناً بإنشاء مؤسسة وطنيّة لإصدار أوراق العملة لاستبدال بنك سوريا ولبنان، لكونه مصرفاً خاصاً ورأسماله أجنبي.
أثناء عهد كميل شمعون، تدبّر الرئيس اللبنانيّ الأمر، ليبقي الحركة من أجل التغيير تحت السيطرة. ولكن مع اقتراب موعد انقضاء امتياز بنك سوريا ولبنان عام 1964، كان مجال المناورة يضيق أمام المصالح المعنيّة المعارضة للمشروع [وعلى رأسها المصارف الخاصة]. وأتت فورة الإصلاحات الإداريّة التي أطلقها خلف شمعون، فؤاد شهاب، لتوجّه صفعة ختاميّة لآمال الراغبين في الهروب من الموضوع. كان مجلس النقد والتسليف أحد الأجهزة البيروقراطيّة التي أحدثها شهاب عام 1959. وبحسب المرسوم المنشئ رسمياً للمجلس، الذي يعمل كلجنة خاصة من ضمن وزارة المالية، كانت المهمة المنوطة به غير محدّدة بصورة واضحة. كان يُنتظَر من المجلس أن يستند إلى دراساته الإحصائية العلميّة الخاصة به، ليشير إلى الوزارة بسياستها في مجالي النقد والتسليف، وليضع مسودة قانون لتنظيم المهنة المصرفيّة. ولم ينص المرسوم المنشئ للمجلس على أن المهمة الثانية، أي التنظيم المصرفيّ، تتطلّب تأسيس مصرف مركزيّ. ففي وقت إنشاء المجلس، كان التعاون بينه وبين بنك سوريا ولبنان إطاراً مقبولًا للمستقبل، حيال هذا التنظيم.
ظل مرسوم إنشاء مجلس النقد والتسليف مجمّداً سنتين ونصف سنة. والنصوص المنشورة عن تاريخ المجلس ونشاطه لا تذكر شيئاً، أو هي تتكهّن فقط في شأن السؤال عن السبب الفعلي لتأخير تأسيسه، لكنّ البرقيات الدبلوماسيّة الأميركية تشير إلى أن المصالح المعنية بالأمر، التي تقاتلت من أجل السيطرة على المجلس، كانت هي المسؤولة. كانت الجهود للتأثير في المجلس ترمي في نهاية الأمر إلى التأثير في كتابة مسوّدة التشريع لإنشاء المصرف المركزيّ المقترَح. وبحسب ما أسرَّه سامي شقير، وهو مصرفيّ لبنانيّ كبير «معروف جدًا» في وزارة الخارجيّة الأميركية، فإن ثلاث مجموعات نافذة من رجال الأعمال، كانت تتسابق لاكتساب مواقع مؤاتية حيال المصرف المركزيّ، بالنظر إلى «السلطة الهائلة» التي يمكن اكتسابها بالسيطرة على مثل هذه المؤسسة.
المجموعة الأولى سعت إلى أن يكون المصرف المركزيّ «بعيداً من أي نفوذ أجنبي» ـ كلمة «أجنبي» تشير إلى حد بعيد، إلى النفوذ الفرنسيّ، الذي يجسّده بنك سوريا ولبنان ـ وكان شقير، ورئيس جمعيّة مصارف لبنان بيار إدّه، ورشيد كرامي، رئيس الوزراء وزير المالية، والاقتصادي في الجامعة الأميركيّة في بيروت بول خلاط الذي كان أيضاً مستشاراً مالياً للحكومة، ينتمون إلى هذه المجموعة.
المجموعة الثانية، هي المجموعة الفرنسيّة، أي التي وقفت مع المصالح الفرنسيّة التي يجسّدها بنك سوريا ولبنان. وقد شكّل العضو البارز في مجلس إدارة البنك، هنري فرعون، ومستشاره المالي جوزف أوغورليان، هذه الجبهة الثانية، متحالفَين مع السياسي المتزايد نفوذاً بيار الجميّل، رئيس حزب الكتائب اليميني.
أما المجموعة الثالثة، فقيل إنها تمثل المصالح البريطانيّة، وكان يرأسها يوسف بيدس، مؤسّس بنك إنترا ورئيسه. وقد ارتأى بيدس، «النشيط والطموح»، أن أفضل سبيل إلى الهيمنة على المصرف المركزيّ المقتَرَح، هو كسب عقد لإدارته؛ فاشترى أسهماً في البنك الأهلي الذي تربطه علاقة بفرعون، وكوّن جبهة مشتركة خفيّة مع المجموعة المتحالفة مع فرنسا. كذلك حاول بيدس أن يكسب خلاط بمنحه راتباً مغرياً، بصفة مستشار لإنترا. إلا أن خلاط، الذي كان مقرّباً من إدّه، رفض.
دفعت قوّات خلاط ــــ كرامي، وهي العبارة التي جاءت في المذكرة السريّة الأميركيّة لوصف المجموعة الأولى، في اتجاه نشر مرسوم مجلس النقد والتسليف في صيف عام 1959، عندما كان رئيس الوزراء كرامي يتولّى حقيبة المالية أيضاً. لكن الجميّل، الذي يدعمه بنك سوريا ولبنان، نجح في تجميد تشكيل المجلس ما إن تولّى هو حقيبة المالية في الوزارتين المتواليتين اللتين ألّفهما صائب سلام؛ فبوصفه وزيراً للمالية، وقّع الجميّل في آب عام 1961 عقداً مع أوغورليان، المستشار في بنك سوريا ولبنان، ليرأس الأخير اللجنة التي ستُصدر التوصيات في شأن تأسيس مصرف مركزيّ. لكن كرامي ألغى العقد، بعدما عاد إلى السلطة في تشرين الثاني من العام نفسه، وتولّى أيضاً حقيبة المالية، التي جعلت منه، بحكم منصبه، رئيسًا لمجلس النقد والتسليف.
غير أن التردّد حُسِم بمرسوم 15 كانون الأول عام 1961، حين عُيِّن ممثلو كل المجموعات الثلاث أعضاءً في مجلس النقد والتسليف. إضافة إلى كرامي (رئيساً) وخلاط (عضواً)، عُيِّن أوغورليان (بنك سوريا ولبنان) نائباً للرئيس. وفي أول اجتماع للمجلس، عُقد في وزارة المالية، أعلن كرامي أن هدف مجلس النقد والتسليف ليس إعداد تشريع لتنظيم العمل المصرفيّ فقط، بل إنشاء مصرف مركزيّ. وهكذا تحول الصراع الى العلن، وبات الاصطفاف واضحاً بين الجمعية ككل، وأجهزة الدولة الشهابية، وهو ما سيتناوله المقال المقبل.