التغطية الصحّية الشاملة المموّلة بالضريبة، والتعليم المجاني للجميع، ليسا مجرّد شعارات يطرحها شربل نحاس في كتابه: «اقتصاد ودولة للبنان»، بل هما من أهم المشاريع التي يجب القيام بها سريعاً من أجل تعويض الأسر عن الفقر الذي وقعت فيه. لكن ليس من أجل ذلك فقط، فالأمر برمّته يرتّب إعادة هيكلة شاملة في بنية النظام. فالتغطية الصحّية الشاملة المموّلة بالضريبة هي الفكرة النقيضة للتغطية الحالية القائمة على شبكات مموّلة بالضرائب على الدخل. أما التعليم الذي كان مصمّماً ليغطي حاجات النموذج السابق في تصدير الشباب، فمن الضروري أن يصبح قادراً على إنتاج المعرفة والتجديد والابتكار وإدارة الطلب وأن يكون مربوطاً بالحاجات الاقتصادية.

التغطية الصحية الشاملة وتمويلها
لا يجوز، بأيّ حال من الأحوال، مقاربة القطاع الصحي وفقاً لمنطق السوق، أقلّه بسبب عدم توازي المعرفة بين المريض والمؤسسات أو المهنيين الذين يقدّمون الرعاية. يدرك الجميع أن الصحّة يمكن أن تتحوّل بسهولة إلى مصدر للأرباح الباهظة أو أداة مُخزية لتعزيز الزبائنية واستلاب الذمم.
الإنفاق على الصحة من أقل بنود الإنفاق مرونة نسبة إلى الدخل. وفي مرحلة إفقار معمّم، يفرِض تحويل هذا الإنفاق من المسؤولية الخاصة إلى المسؤولية المجتمعية نفسه، تحقيقاً للعدالة الاجتماعية، ودعماً للأسر الأضعف. والأهم، لكون القرارات المتّخذة في أوقات الأزمات ترسم معالم ما بعد الأزمة، فهو يُرسي منطق الحقوق الذي يسهم في تأسيس شرعية الدولة.
جرت الموافقة على التغطية الصحية الشاملة للمقيمين مموّلة من الضرائب، بإجماع كل ممثلي الكتل البرلمانية خلال المنتدى الاجتماعي الذي نظّمته بعثة الاتحاد الأوروبي في عام 2008، لكن عندما اقترحها وزير العمل في عام 2011 رفضتها الكتل السياسية نفسها بالإجماع (بالإضافة إلى ما يسمّى بالاتحاد العمالي العام في لبنان الذي سجّل ضدّ الوزير شكوى مشتركة مع جمعيات أرباب العمل أمام منظّمة العمل الدولية). حان الوقت لوضع حدّ للمهزلة.
لا يوجد أيّ سبب مبدئي لتمويل التغطية الصحية من خلال الضرائب على مداخيل العمل، أي عبر الاشتراكات الإلزامية المحتسبة على أساس الأجر. في حالة لبنان، حيث يمثّل الأجراء «النظاميون» أقلّ من 30% من القوّة العامة الناشطة (تبلغ النسبة نحو 88% في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية – OCDE) وفي ظل ارتفاع معدلات البطالة إلى حدّ مدمّر وانخفاض الأجور الحقيقية، يصبح الاعتماد على هذه المساهمات خطأ فادحاً. من أجل تعزيز العمالة وتخفيف الأكلاف على المؤسّسات، يجب أن تشكّل المداخيل الناتجة عن مصادر الريوع المتخلّفة، القاعدة الرئيسية لتمويل هذه التغطية (مثل أرباح رأس المال والإيرادات المالية). في عام 2011 غطّت الدولة فعلياً نحو 40% من الفاتورة الصحية (مخصّصات طبابة موظفي القطاع العام، ومساهمة الدولة في النفقات الصحيّة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والتغطية الاستنسابية للاستشفاء عبر وزارة الصحة). ومع ذلك لا يزال أكثر من نصف اللبنانيين من دون أيّ تغطية صحيّة، فيما تشهد صناديق المهن الحرّة والمعلمين انهياراً في القيمة الحقيقية لمدخراتها نتيجة التضخّم. في الواقع، لا تتجاوز الكلفة الإضافية للوصول إلى التغطية الشاملة 2% من الناتج المحلي الإجمالي وتنخفض إلى 1.6% مع إدارة محكمة.
الكلفة الإجمالية للتعليم في لبنان هي من دون شك الأعلى في العالم وتبلغ 13.1% من الناتج المحلي مقارنة مع ما بين 5% و7% في العالم


تشمل التغطية المقيمين كونها تعتمد على التمويل الضريبي. لذا يتوجب إجراء تعداد سكاني للمقيمين (للمرّة الأولى منذ عام 1932!) أما الأجانب المقيمون الدائمون فتؤمَّن لهم التغطية من خلال الحصول على التزامات ثابتة من المانحين الأجانب لتأمين كلفة التغطية الصحية للاجئين الفلسطينيين والسوريين الذين يتحمل مسؤولية وضعهم ما يسمى بـ«المجتمع الدولي»، (بذلك يتم تعزيز موقع الأونروا لناحية استدامتها).
يتولّى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مسؤولية إدارة النظام الذي يغطّي الخدمات الأساسية بصورة شاملة. تستمرّ الصناديق الحالية للمهن المنظمة، وصناديق التعاضد، وشركات التأمين الخاصة (تغطية الأفراد أو المجموعات أو موظفي الشركات) في تأمين التقديمات التكميلية. تسمح الإدارة المركزية للنظام بخفض الأكلاف بشكل كبير، لا سيما لناحية المواصفات وكميات العلاجات والأدوية واللوازم الطبية.
تتكوّن بالتالي لدى وزارة الصحة قاعدة بيانات صحية متماسكة، فتصبح الوزارة قادرة على تأدية مهمتها الحقيقية في تحديد المعايير ومراقبة جودة الخدمات واللوازم الصحية (الأطباء، الصيادلة، المختبرات، الأدوية...)، وإدارة عمليات الحصول على الخدمات (الوقاية، الإسعافات الأولية، معاينات الأطباء العامين، الإحالة إلى الخدمات المتخصصة، تعريف الإجراءات الطبية)، وتولّي الحالات الطبية الصعبة، وإدارة المخاطر الوبائية، وتوجيه البحوث الطبية والصيدلانية.
من هنا، يتعيّن على مقدّمي الخدمات الصحية، في مواجهة القدرة التفاوضية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وقواعد المعلومات المدارَة من قبل وزارة الصحة، تنظيم كميات خدماتهم وأكلافها من خلال عقود ومراقبة فعّالة.

ربط التعليم بالحاجات الاقتصادية
التعليم هو، في الوقت نفسه ومن دون إمكانية الفصل بينها، إنتاج وإعادة إنتاج واكتساب مهارات فكرية ومعلومات موضوعية، ومراتب اجتماعية، وأيديولوجيات محرّرة أو مستلبة. ولا يصح بالتالي أن يخضع لمنطق السوق.
ينطبق ذلك بشدّة مضاعفة على المجتمع اللبناني الذي أُعيد تشكيله خدمة لهدف مزدوج: تحويل شبابه المتعلم إلى مادة تصدير رئيسية، 2) مأسسة تقسيم مزدوج، طبقي وطائفي يؤطّر الحياة العامة ويؤمّن السيطرة الاجتماعية من خلال شبكات شبه مافياوية.
يخدم النظام التعليمي هذين الهدفين وفق منطق مُحكم وبدقة شديدة:
* الكلفة الإجمالية للتعليم في لبنان هي من دون شك الأعلى في العالم (13.1% من الناتج المحلي القائم مقارنة مع 5% إلى 7% في العالم)، لأن الحصول على شهادة جامعية هو الشرط الضروري، لا لتحسين الدخل الناجم عن النشاط داخل الاقتصاد الوطني (العائد الاقتصادي العام عن الاستثمار في التعليم هو في الوقت سلبي)، إنما لتحسين حظوظ الاندماج في بلدان الهجرة.
* الطلب على «الشهادات الجامعية» مرتفع للغاية، لدرجة أن إنفاق الأسر على التعليم في لبنان يبلغ 9.1% من الناتج المحلي الإجمالي، في مقابل 0.4% في فرنسا و2.2% في الولايات المتحدة. من هنا يصبح السؤال البديهي: ماذا تفعل الدولة؟
* بلغ الإنفاق العام على التعليم في لبنان 4.1% من الناتج المحلي القائم، وهو قريب من المعدّلات في بلدان أخرى من العالم (5.8% في فرنسا، 4.9% في الولايات المتحدة، وأيضاً 4.2% في المكسيك، أو 4.6% في ساحل العاج). وتشمل هذه النفقات مخصّصات التعليم التي تُمنح لموظفي القطاع العام بمن فيهم الأساتذة في الملاك العام لتعليم أولادهم في المؤسّسات الخاصة.

مع أن الدولة غطّت في عام 2011 نحو 40% من الفاتورة الصحّية، إلّا أنّه ما زال أكثر من نصف اللبنانيين بلا أيّ تغطية، علماً بأنّ كلفة الوصول إلى التغطية الشاملة لا تتجاوز 2% من الناتج


* هذه المفارقة ليست إلا ظاهرة. فالتعليم العام، باستثناء بعض كليّات الجامعة اللبنانية التي تعتمد على مباريات الدخول، هو تعليم بائس للبائسين. دوره الأساسي توفير قناة من قنوات إعادة التوزيع الزبائنية. ذلك شرط لا غنى عنه لاستدامة نظام مزدوج كهذا.
* النظام التعليمي لا يخدم تصدير الشباب المتعلم فحسب، بل يستجيب أيضاً للمنطق السياسي الداخلي. في مقابل طلب مضخّم على «الشهادات الجامعية»، عرض هائل ومتكيّف مع أدقّ ثنايا التقسيمات الطبقية والطائفية للمجتمع. فالنظام يخدم أيضاً اكتساب المراتب الاجتماعية. لذا نشهد عدداً فلكيّاً في «الجامعات»، من دون أي عمل بحثي وأية علاقة بواقع المجتمع والاقتصاد.
هدفنا عكس كل هذا المنطق، غاياته وأدائه.
على النظام التعليمي أن يؤمّن الوظائف التالية:
* تعزيز الشرعية المدنية للدولة وتغذية الفكر النقدي والحرية والقدرة على التجديد والابتكار.
* إنتاج المعرفة في علاقة وثيقة بالحقائق الاقتصادية والاجتماعية للبلد ومحيطه من جهة، وبالإدارة والمؤسسات من جهة أخرى.
* تطوير القدرات على إدارة الطلب، أي معرفة قواعد السلوك وآليات الإنتاج وليس الاكفتاء بالمعارف الإجرائية لتوفير العرض بما يزينها من تقنية مزعومة.
* مواكبة العملية الانتقالية من خلال دمج التدريب ما بعد المدرسي.

تطرح الأزمة الاقتصادية اعتبارات اجتماعية، ولكنها تسمح أيضاً بإعادة تركيز التعليم على وظائفه الاقتصادية والسياسية:
* التعليم الأساسي وصولاً إلى المرحلة التكميلية يكون إلزامياً ومجانياً، ويكون مجانياً حتى المرحلة الثانوية (بما يشمل التعليم التقني والمهني).
بالنظر إلى الإرث المنحرف للتعليم العام وقيمته المنخفضة، يمكن توفير هذا التعليم لفترة انتقالية) مدّتها عشر سنوات عبر المؤسسات العامة كما عبر المؤسسات الخاصة التي تُبرم عقوداً مع الدولة تلتزم فيها بالبرامج الرسمية بشكل صارم (وهو أمر غير متوافر حالياً) وبالسيطرة الدقيقة على الأكلاف التشغيلية وبشرط قبول التلاميذ، بما يضع حدّاً لإعادة إنتاج التقسيم المجتمعي وتعميقه.
* تغطّي الدولة كلفة التعليم في المدارس الخاصة المتعاقدة من خلال مخصّصات نقدية في الموازنة وتوفير المعلمين وتأمين المعدات والمرافق اللازمة. في المقابل، يتم التعامل مع المؤسّسات التعليمية غير المتعاونة بوصفها مؤسسات تجارية، يتوجب عليها دفع الضرائب (ضريبة القيمة المضافة، وضرائب الدخل والأرباح، وغيرها).
تخضع كل الشهادات المدرسيّة من دون استثناء للامتحانات الرسمية.
* يستفيد اللبنانيون في الخارج من مراكز ثقافية في المدن التي يستقر فيها عدد كبير منهم. توفر هذه المراكز للمغتربين استمرار صلاتهم بلبنان، وتؤمن دورات في اللغة والتاريخ والتربية المدنية لأولادهم من خلال الوسائل التقنية المناسبة.
تُعاد هيكلة التعليم العالي لربطه باحتياجات التحوّل الاقتصادي:
* يوضع حدّ لتعدّد مجتمعات الجامعة اللبنانية التي تحولت إلى مجمّعات طائفية. يوفّر التعليم التخصّص في حرم جامعي أو اثنين على الأكثر، ويتنقل الطلاب إليهما من جميع المناطق مستفيدين من وسائل النقل العام ومن مساكن جامعية.
* يدعى خريجو الجامعة اللبنانية إما للمشاركة في برامج البحث وإنتاج المعرفة أو للانخراط في النشاط الاقتصادي في القطاع العام أو القطاع الخاص وفقاً لاتفاقيات قطاعية تُعقد لبضع سنوات. وفي حال الرفض، يتوجب عليهم دفع كلفة تعليمهم.
* تدعى الجامعات الخاصة إلى إعادة تعريف مشروعها التعليمي والبحثي والالتزام بمستلزمات تنفيذه. ويتم التعامل مع الاختصاصات الخاضعة لاتفاقيات مع قطاعات اقتصادية أو مع الدولة، وفق النماذج السارية في الجامعة اللبنانية. في حين يعاد تصنيف الجامعات التي ترفض اتباع هذه الآلية والاختصاصات غير الخاضعة لاتفاقيات قطاعية، على أن يتم التعامل معها على أنها دورات تدريب مهني و/أو مؤسسات تجارية.
* سيكون التحولان الاقتصادي والاجتماعي الناجمان عن الأزمة عميقين، وسيتطلبان إيلاء اهتمام خاص بالتدريب المهني للبالغين، ويكون دور ما يُسمى بـ«الجامعات الخاصة» متّصلاً بأداء هذه الوظيفة.