تترجم الأزمة فعلياً بهبوط سعر صرف الليرة (بعد اندثار «الدولار اللبناني» تدريجاً) وبركود شديد في الحركة الاقتصادية. هذا الهبوط، وهذا الركود، لا يزالان في بدايتهما. ينتج عنهما تراجع في المداخيل، وتراجع في الأسعار المحلية نسبة إلى الأسعار الخارجية (أي تصحيح سعر الصرف الحقيقي). نظراً إلى عدم اتخاذ أي إجراءات احتياطية في مجال الخدمات الاجتماعية (صحّة، نقل، سكن)، ثمة خطر فعلي بأن يولّد تراجع المداخيل، تأثيرات اجتماعية دراماتيكية، وأن يُترجم بمزيد من الهجرة. سينخفض الاستهلاك والاستيراد، وهذا ما بدأ يحصل بالفعل. إلا أن انخفاض الأسعار نسبة إلى الخارج يفترض أن يؤدّي نظرياً إلى إعادة توازن الاقتصاد لناحية زيادة الإنتاج، وربما زيادة تصدير السلع القابلة للتبادل، لكنّ هذا التصحيح لناحية الإنتاج يرجح أنه يحتاج إلى وقت أطول بكثير من التصحيح عبر الطلب. تقصير هذا الفرق الزمني همّ ومسؤولية سياسية فائقا الأهمية. تتحقق زيادة الإنتاج أسرع بقدر ما تتجمع الشروط الثلاثة التالية: (1) أن يحصل، وأن يستمرّ طلب خارجي على السلع والخدمات القابلة للتصدير (لأن الطلب الداخلي سيبقى منخفضاً نتيجة تراجع المداخيل).
(2) أن تتحقّق استثمارات من قبل «رواد أعمال» حقيقيين، من القطاع الخاص أو العام، لبنانيين أو أجانب.
(3) أن تجد الوظائف التي سيولّدها هذا الطلب وهذه الاستثمارات الكفاءات اللازمة ضمن شروط عمل كريمة.
حين نتكلم عن الاستثمارات، يجب أن نضع جانباً ما يُسمى استثمارات مالية، وإنما أيضاً الاستثمارات العقارية (من مساكن ومتاجر على خلاف المباني الصناعية والزراعية). علماً بأن الاستثمارات العقارية شكّلت الأكثرية الساحقة من الاستثمارات التي نُفذت حتى اليوم.
يجب أن ينخرط خيار القطاعات وأشكال التدخّل ضمن إطار عام (من هنا تكتسب عبارة «مرحلة انتقالية» معنى حقيقياً) وأن يرتبط بخيار أساسي لشكل المجتمع الذي نريده: مجتمع متكامل ذو مستوى محدود من الهجرات الخارجية والوافدة، أو مجتمع ازدواجي ذو مستوى مرتفع من الهجرات الخارجية والوافدة كما هو الحال في البلدان الخليجية الصغيرة؟ في كلتا الحالتين، أيّ موقف يُعتمَد حيال الوافدين؟ تجاهل وفود غير اللبنانيين وتركهم يندمجون بحكم الأمر الواقع، أو إعادتهم إلى بلدانهم دورياً أو على دفعات أو إدماجهم انتقائياً، أو إقامة تكامل خارجي.


تتوقف الأفضلية التي تُمنح لأحد القطاعات، ولإحدى وسائل التدخل على الاعتبارات التالية:
1- الطاقة التصديرية. هي تشكل معياراً أساسياً سواء لتصحيح الميزان الاقتصادي وخفض العجز في الحسابات الخارجية، وما يستتبعهما من ضرورة جذب مستمر لرؤوس الأموال، أو للخروج من هيمنة إنتاج البضائع غير القابلة للتبادل وتأثيراتها على الإنتاجية. لا يسمح صغر حجم البلد بأي اكتفاء ذاتي أو استبدال مجدٍ للمستوردات. ولا بد بالتالي، من نشوء مؤسسات إنتاجية لبنانية كبيرة قادرة على استحواذ حصص سوقية عالمية والاحتفاظ بها، وهذا يفرض تخصّصاً إنتاجياً واضحاً.
يتكرر ذكر بعض القطاعات (تصنيع المنتجات الزراعية، مثلاً ربما لأنها تسهل رؤيتها)، لكن الخيار الفعلي يبقى ذا أهمية قصوى، ولا بد من تحليل دقيق لهيكلية التجارة الخارجية.
- تعتمد المقاربة الكلاسيكية على مقولة «المزايا التفصيلية المشهودة»: إذا طُبقت في لبنان، تقودنا إلى اللائحة المعروفة: الصناعات الغذائية، المجوهرات، المصنوعات الورقية والخشبية، تضاف إليها خدمات الإعلام، والاستشارات... وإذا طُبّقت على لبنان وسوريا معاً، يمكن إضافة القطنيات، والأنسجة، والزيتون والزيت، والقمح القاسي والمعجنات، والمفروشات، والآلات الخفيفة...
- ثمة مقاربة ثانية تعتمد على استباق موجات التغيير التقني المرتقبة ومواكبة صعودها: الصناعات المتصلة بالبيئة وإعادة التدوير، الطاقة الشمسية، توليد الكهرباء من الأشعة، الأتمتة...
- تقوم المقاربة الثالثة على الاستفادة من ظروف محليّة، بما فيها حالات القصور: إعادة البناء في سوريا، الأبنية المقتصدة للطاقة، الشبكات الذكية (اتصالات، كهرباء، مياه...) أو النفط والغاز. لكنّ استبعاد أي مشاركة لبنانية في عقود الاستخراج والاستثمار الأخيرة يبدو مخالفاً لهذا السياق.
- أما المقاربة الرابعة فتركّز على القطاعات التي تنتج سلعاً وخدمات يحتاج إليها البلد، إنما تحول دون إنتاجها أسباب تتعلق بالاقتصاد السياسي (الاحتكارات مثلاً، أو تحويل القطاعات إلى أداة للريع، أو للسطو على المال العام)، ومنها الأدوية والشبكات الكهربائية الذكية، والمدخلات الزراعية، معدات وتكنولوجيا إدارة ومعالجة النفايات وإعادة تدويرها...
تجدر الإشارة إلى أن الدعم يكون أكثر فاعلية إذا خصّ المنتجات الأقل حاجة إلى المدخلات المحلية الباهظة الثمن (الأراضي، الطاقة)...
2- مرونة العمل نسبة إلى الإنتاج: هو معيار مهم، لأن النمو في لبنان أثبت أنه لا يولّد فرص عمل، بينما الأزمة السورية ألقت بعبء إضافي هائل من البطالة. الحصيلة التي نشهدها، هي الهجرة من جهة، والضغط الهائل للحصول على وظائف عامة. بات تولّد فرص العمل تحدياً سياسياً واجتماعياً حاسماً. يركّز تقرير البنك الدولي تحت عنوان «لبنان: تعزيز محاربة الفقر والازدهار المشترك – تشخيص منهجي للبلد»، على أنّ عاملاً أساسياً لغياب النمو الاقتصادي الدامج (للناس) هو ضعف مرونة فرص العمل بالنسبة إلى النمو».
المشكلة هي أن الصناعات الكلاسيكية ذات الثقافة في اليد العاملة، والتي كانت قائمة للتصدير مع تعرضها لمنافسة الاستيراد، يصعب صمودها متى ارتفعت أكلاف المعيشة، وبالتالي مستويات الأجور في البلد. كلفة المعيشة سجّلت حتى الأزمة ارتفاعاً هائلاً في لبنان. تجربة المناطق الاقتصادية الخاصة في البلدان التي تواجه ظروفاً مماثلة للبنان (والمثال الأقرب هو الأردن) انتهت بالاعتماد المكثف على استيراد يد عاملة أجنبية منخفضة الأجر. لذا ليست المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس مقنعة في ادعائها خلق فرص عمل للبنانيين. ارتفاع الأسعار الداخلية نسبة إلى الأسعار العالمية بنتيجة الداء الهولندي الذي يعاني منه لبنان بحدّة، أدّى إلى «تخصّص في إنتاج السلع والخدمات غير القابلة للتبادل، صغر حجم المؤسسات وضعف إنتاجيتها مع كثافة في العمالة المتدنية الكفاءة، وحركة مزدوجة وكثيفة لهجرة اللبنانيين ولاستيراد يد عاملة أجنبية رخيصة الأجر.
ثمة جواب ممكن تجاه هذه الإشكالية وهو يمرّ عبر إقامة علاقة تكاملية بين الاقتصادين اللبناني والسوري، بحيث تتركز حلقات الإنتاج الأكثر كثافة باليد العاملة في سوريا، بينما تتركز الحلقات الأكثر كثافة برأس المال في لبنان. هذا طبعاً بشرط توافر الطلب الخارجي على المخرجات نظراً إلى تدني الطلب الداخلي بسبب الأزمة في لبنان والحرب في سوريا.
3- مضاعفات الإنتاج غير المباشر التي تولّدها زيادة الإنتاج في قطاع معين تشكل أيضاً معياراً مهماً. تؤتي المضاعفات مفاعيلها سواء صوب المنبع، عبر مزيد من الطلب على مدخلات القطاع، أو نحو المصب، عبر عرض مزيد من السلع الوسيطة التي تنتج عنه، أو عبر الطلب الذي يزداد مع التوزيع الأوّلي المجدي لعوائد الإنتاج الإضافي. ويتوقف تعظيمها على مدى تماسك سلاسل الإنتاج وعلى توافر الموارد. يمكن تعظيمها أيضاً إذا تمكّن لبنان وسوريا من إقامة علاقات تكاملية بين اقتصاديهما.
لكنها تشمل أيضاً العمل ضد آليات فرض الريوع (الاحتكارات واختلال التوازن في المعرفة وفي التفاوض التجاري) التي تهيمن على الاقتصاد اللبناني. الزراعة وصناعة تحويل المواد الزراعية، تشكّلان مثالاً واضحاً لسلسلة تشمل، في كل حلقاتها المتشابكة، التجارة والتمويل، مع اختلال فاضح في التوازن في الحصول على المعلومات وفي التعرض للمخاطر: من جهة المنبع (للحصول على المدخلات) كما من جهة المصبّ (الوصول إلى الأسواق والتحكّم بشبكات التوزيع).
تميّز الوضع اللبناني بتركّز الإنتاج في الحلقات الأخيرة من سلاسل الإنتاج، وبذلك باتت مضاعفات الإنتاج صوب المنبع (المدخلات مستوردة) وصوب المصبّ شبه معدومة.
يمكن إقامة علاقة تكاملية بين الاقتصادين اللبناني والسوري، بحيث تتركز حلقات الإنتاج الأكثر كثافة باليد العاملة في سوريا، بينما تتركز الحلقات الأكثر كثافة برأس المال في لبنان. هذا طبعاً بشرط توافر الطلب الخارجي على المخرجات نظراً إلى تدني الطلب الداخلي بسبب الأزمة في لبنان والحرب في سوريا


تم تشويه المفاعيل، عبر الطلب بنتيجة تحويل إدارة الخدمات العامة إلى أدوات لفرض الريوع أو أعباء شبه ضريبية ثقيلة بالاستفادة من حالات الاحتكار الطبيعية الخاصة أو العامة أو الما بين وضخّ الريوع والأعباء هذه في قنوات التوزيع الاجتماعي – الزبائني، فأصبحت هذه الخدمات مختلفة عن أبسط المعايير، ما ولّد الحاجة إلى الاستعاضة عنها عبر اللجوء إلى موفّري خدمات بديلة يقدمها عدد هائل من المؤسسات الصغيرة أو المتوسطة الحجم (من مولدات الأحياء، إلى فانات النقل، إلى صهاريج المياه، إلى موزعي التلفزيون والإنترنت...) وهي تستخدم أعداداً كبيرة جداً من العمال بكلفة مضاعفة على الاقتصاد عموماً وعلى المستهلكين. وسوف يكون من الصعوبة بمكان توفير حلول لهؤلاء العمال الذين لا يزيد عملهم شيئاً في الإنتاج لو قامت المؤسسات العامة بمسؤوليتها.
بموازاة أي إجراء يُتّخذ تجاه أي قطاع معين، تعزيزاً أو تقليصاً، وفق المعايير الثلاثة المذكورة، يجب الاهتمام بعناية شديدة بوجهة وكيفية إعادة تخصيص عوامل الإنتاج المنخرطة في الأنشطة التي لا يكون مبرراً استمرارها على حالها، ولا سيما العاملون. واجب تخفيف المخاطر التي تصيب الأسر والمؤسّسات جراء إجراءات التصحيح المالي (إعادة توزيع الموارد البشرية الناتجة عن استثمارات أو عن إجراءات ضريبية ) يضاف إلى واجب تخفيف المخاطر المرتبطة بالأزمة نفسها (تفاوت في العملات بين المداخيل بالليرة والالتزامات بالعملات، الضغط على السيولة، انخفاض القيمة الفعلية للأصول المقابلة للقروض).
أشكال الإجراءات متنوعة: إجراءات مباشرة تتناول المؤسسات الكبيرة والمتوسطة أو تجمّعات المؤسّسات، جولات استثمار، زيادة رؤوس أموال أو تمويل، البحث عن شركات دولية، التدريب، إقامة منصات مشتركة للتصدير بين مؤسسات صغيرة متشابهة، إجراءات متولدة تُعنى بمجموعات المؤسسات الصغيرة أو المتوسطة الحجم بصفتها متعاقدة من الباطن... كل هذا مع سياسات اجتماعية مواكبة لمختلف التغيّرات، ومع أفعال هادفة ومركّزة (دعم اول فرصة عمل للشباب مثلاً).

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا