«لم أقابل في حياتي شخصاً يستثمر هذا القدر الضخم والمنهك من الجهد والتعب والتدريب... لعدم قول الصدق». الشخص هو رئيس هيئة «أوجيرو»، والكلام لأحد الوزراء الذين تعاقبوا على «وزارة عبد المنعم يوسف» المعروفة رسمياً بـ«وزارة الاتصالات»! «شديد الذكاء، لبق، مندفع، يطعّم حديثه بكثير من الكلمات الفرنسية، وله سحر على محدثيه. يُدرك أنك تدرك أنه لا يقول الصدق. لكنه يستميت لتغطية ذلك بضخ كمية هائلة من المعلومات غير الصحيحة... إلى درجة تثير الجنون. أكاد أتخيل شربل نحاس وجبران باسيل يفتشان عليه في أروقة الوزارة ليمسكا بخوانيقه»، يضيف.
يروي أحد عارفيه أنه أبلغ يوسف مرة بنيته السفر الى عاصمة أوروبية. قال له الأخير إنه قد يتصل به ليوصيه على بعض الكتب والمجلات، إلا أنه لم يفعل. لدى عودة الرجل، مرّ في طريقه من المطار بمبنى «أوجيرو»، وكان يوم أحد، فوجد مكتب يوسف مضاءً. قصده في مكتبه فشكا له من ضغط العمل الذي يضطره الى العمل يوم الأحد. لكن الرجل ذُهل لاحقاً بعدما علم بطريق الصدفة أن يوسف كان معه على الطائرة نفسها.
يُدرك أنك تدرك أنه لا يقول الصدق ويستميت لتغطية ذلك بضخ كمية هائلة من المعلومات غير الصحيحة

يقول عنه وزير الاتصالات السابق الفضل شلق (وهو من قدّمه الى الرئيس الراحل رفيق الحريري): «كان يمتنع عن تنفيذ ما هو مطلوب منه، بما في ذلك القرارات التي تتخذ في الاجتماعات، والتي كان يوافق عليها. وكان دؤوباً على الكذب، وتقديم المعلومات غير الصحيحة. فكأنه يخفي شيئاً. أعلمت دولة الرئيس أن عبد المنعم وسّع علاقاته خارج الوزارة، وأنه يخضع عمله لأغراض لا تتعلق بحسن سير العمل. نصحني دولة الرئيس باستيعابه، فأجبته أنه يصعب عليّ استيعابه، إذا كان هو نفسه يستقبله من وراء ظهري» (الفضل شلق، «تجربتي مع الحريري»، ص 327).
الرجل الذي يمسك ــــ خلافاً للقانون ــــ بتلابيب ثلاثة مناصب: مدير عام الاستثمار والصيانة في الوزارة ورئيس مجلس إدارة هيئة «أوجيرو» ومديرها العام، يكاد يستحيل الإمساك بتلابيبه رغم مئات الدعاوى الموثقة التي رفعها ضده وزراء اتصالات سابقون أعياهم التعاطي معه. يقول أحد الذين عملوا معه: «بعدما عجز وزير الاتصالات السابق نقولا الصحناوي عن الحصول على اي رقم من قلم أوجيرو للمراسلات التي كان يبعثها ليوسف، لجأ الى كاتب للعدل من أجل تبليغه رسمياً»!
يتقن «فن الانحناء»، في الأشهر الثلاثة الأولى من عهد كل وزير، قبل أن يعود الى سيرته الأولى، هو الذي يدرك ان «جيش الـ 3000 موظف» في وزارة الاتصالات و«أوجيرو» يخضعون له، فيما لا يمون الوزير ــــ أي وزير ــــ على أكثر من مستشاريه. أما عندما يكون الوزير من فريقه السياسي، كما حصل بعد تسلم بطرس حرب حقيبة الاتصالات، فيكفي اتصال من «عرّابه» فؤاد السنيورة: «دير بالك على عبد المنعم»!
نوّهت كتلة المستقبل أول من أمس بحصوله على «120 براءة قضائية»(!) فيما يؤكّد العارفون بخفايا الوزارة أن «إيمانه» بـ«حكمة»: «طعمي التم بتستحي العين» يحصّنه ضد «الحاقدين». وهو طبّق هذه «الحكمة» عبر مئات التوظيفات لأبناء قضاة وسياسيين وأقاربهم، ناهيك عن «إمساكه» بقضاة وحقوقيين عبر عقود استشارية.
ظاهرياً، هو شديد التعلّق بالقوانين والنظم المرعية الإجراء. يمكنه أن يعلل قراراً لشراء سندويشات فلافل للموظفين، مثلاً، بالاستناد الى عشرات المراسيم والقوانين بما يملأ مجلّدات ويثير الضجر. لكنه، واقعياً، لا يتردد ثانية في خرق كل القوانين والأنظمة. مجلس ادارة «أوجيرو» الذي يرأسه، ويضمه مع غسان ضاهر وألان باسيل، يفترض قانوناً أن ينعقد مرة كل اسبوعين، على الأقل، وعندما تدعو الحاجة. إلا أن الحاجة لا «تدعو» أكثر من ثلاث الى أربع مرات في السنة (آخر اجتماع لمجلس الادارة عقد في 11 تشرين الثاني 2015). يضع جدول الأعمال بمفرده، وإذا ما طُرح بند لا يناسبه لا يتردّد في فض اللقاء بحجة «اجتماع مهم» مع «دولة الرئيس» أو «معالي الوزير»، ليظهر بعد دقائق في أحد مطاعم وسط البلد.
عندما رد مجلس شورى الدولة ايجاباً، قبل سنوات، على طعن أحد عضوي مجلس الادارة في قرار ليوسف بترفيع مدراء في «أوجيرو» من دون معايير واضحة، التفّ على القرار بتسليم هؤلاء مناصبهم الجديدة بالوكالة... ولا يزالون كذلك حتى اليوم. وعندما اعترض ضاهر وباسيل، عام 2007، على بند أدرجه على جدول الأعمال لزيادة راتب مدير المعلوماتية توفيق شبارو من أربعة آلاف دولار الى عشرة آلاف اقتنع برأيهما، قبل أن يتبين لدى مراجعة محضر الجلسة ــــ بعد فترة ــــ أنه رفع راتب شبارو مرتكباً مخالفتين: أُضيف القرار الى المحضر بقلم رصاص، وعُلّل بأنه اتخذ «بناء على اتصال هاتفي من الوزير مروان حمادة»، مع أن هذا الأمر من صلاحيات مجلس الادارة، علماً بأن شبارو، المقرب جداً من يوسف، هو من كلفه حرب رئاسة لجنة التحقيق في قضية الانترنت غير الشرعي.
هل يُضحّى بـ«إمبراطور أوجيرو» على مذبح الخلاف بين سعد الحريري والسنيورة؟... ربما. يثير ذلك كثيراً من البهجة في نفوس الذين «لوّعهم» يوسف، سواء كانوا وزراء أو مدراء أو عاملين. لكنها، بالتأكيد، ليست آخر أيام «الامبراطورية» التي بناها داخل الوزارة. وهذه قصة أخرى، عمرها من عمر الحريرية السياسية، ولن يفرّط بها أي نزاع داخل تيار المستقبل.