يُعدّ القرار الاتهامي، الذي أمر قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دنيال فرانسين ورئيسها أنطونيو كاسيزي برفع السرية عن الجزء الأكبر منه يوم الأربعاء الفائت (17 آب)، القرار القضائي الدولي الأول الذي يتّهم أشخاصاً محددين بالإرهاب. فالكثير من المحاكم والهيئات القضائية المحلية، وخصوصاً في الولايات المتحدة واسرائيل وفرنسا وغيرها، كانت قد أصدرت أحكاماً ومذكرات توقيف وقرارات اتهام بحقّ أشخاص نسبت إليهم جرائم إرهاب، لكن المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وجريمة اغتيال جورج حاوي وجريمتي محاولتي اغتيال مروان حمادة والياس المرّ هي أوّل هيئة قضائية دولية تتهم أشخاصاً بالإرهاب. والمفارقة اللافتة في نصّ قرار الاتهام جاءت في الإشارة الى التنظيم الذي ينتسب اليه المتهمون، إذ إن التنظيم المصنّف إرهابياً بحسب القرار ليس تنظيم القاعدة أو حركة طالبان، اللذين عُرفا أكثر من أي تنظيم آخر على المستوى الدولي بضلوعهما في الإرهاب، بل حركة مقاومة مشروعة في وجه آلة الحرب والاحتلال والتهجير والقتل الإسرائيلية، التي صدرت عن الأمم المتحدة بحقها عشرات قرارات الإدانة. ولا شكّ أن اتهامات المدعي العام دنيال بلمار، الذي زار مكاتب الإدارة الأميركية في واشنطن عدة مرات منذ توليه منصبه الحالي، تخدم المصالح السياسية الأميركية في لبنان والمنطقة. فالولايات المتحدة كانت قد صنفت حزب الله إرهابياً أكثر من عشرة أعوام قبل وقوع جريمة 14 شباط 2005. أما بلمار، فوجه تسعة اتهامات بحق مصطفى بدر الدين وسليم عياش، متعمّداً الإشارة الى صلتهما بعماد مغنية، الذي «كان عضواً مؤسساً لحزب الله، ومسؤولاً عن جناحه العسكري من عام 1983 حتى اغتياله في دمشق في 12 شباط 2008» (الفقرة 59)، وحسين عنيسي وحسن صبرا، منها ثلاثة اتهامات تعنى بالإرهاب وهي: التهمة 1 (موجهة الى المتهمين الأربعة) «مؤامرة هدفها ارتكاب عمل إرهابي».
التهمة 2 (موجهة الى اثنين من المتهمين الأربعة) «ارتكاب عمل إرهابي باستعمال أداة متفجرة».
التهمة 6 (موجهة الى الاثنين الآخرين من المتهمين الأربعة) «التدخل في جريمة ارتكاب عمل إرهابي باستعمال أداة متفجرة».
قبل البحث في الأدلة الظرفية التي اعتمدها المدعي العام، يذكر أن القرار الاتهامي لا يتضمّن عرضاً لدوافع الجريمة، كما أنه لا يتناول أي أدلة حسية أو مخبرية، بل يشير الى وجود إفادات شهود وأدلة وثائقية في معرض «تحليل الاتصالات»، إذ يرد في الفقرة 17 «أن الأدلة التي جمعت طوال فترة التحقيقات التي أجريت، بما فيها إفادات الشهود، والأدلة الوثائقية، وسجلات بيانات الاتصالات للهواتف الخلوية في لبنان، أدت الى تحديد هوية بعض الأشخاص المسؤولين عن الاعتداء على الحريري». ويؤكد بلمار أن الدعوى ضدّ المتهمين تستند «في جانب كبير منها» الى أدلة ظرفية. ويستفيض في التأكيد أن «الأدلة الظرفية، التي تقوم على الاستنتاج والاستدلالات المنطقيين، يُعوّل عليها في معظم الأحيان أكثر من التعويل على الأدلة المباشرة، التي يمكن أن تتعرض لفقدان الذاكرة المباشرة أو لالتباس الأمر على الشاهد العيان» (الفقرة 3)، لكن يبدو ذلك غامضاً، حيث إنه لا تحديد للجهة التي تعوّل على الأدلة الظرفية، ولا تحديد لـ«معظم الأحيان»، فهل المقصود المحاكم الدولية الأخرى؟ ولا شرح واضحاً لمنهجية الاستنتاج والاستدلال سوى بوصفهما بالـ«منطقيين». وقد يتيح «المنطق» الذي اعتمده بلمار على ما يبدو، توسيع خيارات تحليل الأدلة وتركيبها على نحو «يمكن الاستنتاج» أنه قد يتناسب مع الأهداف والظروف. كما «يمكن الاستنتاج» أن عملية تحديد «الأدلة الظرفية» المعتمدة هي مجرّد عملية ظرفية تتمحور حول اعتبارات محددة مسبقاً لا شأن لمعايير العدالة بها.
يتابع بلمار ادعاءه بالقول إنه «في القانون مبدأ مسلّم به يفيد أن الأدلة الظرفية مماثلة للأدلة المباشرة من حيث الوزن والقيمة الثبوتية، وأن الأدلة الظرفية يمكن أن تكون أقوى من الأدلة المباشرة». إن القانون اللبناني (أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات) الذي يفترض أن تعتمده المحكمة لا يتضمّن تقويماً لـ «الأدلة الظرفية»، لكن بما أن صياغة بلمار تأتي على أساس الاحتمال، فعكس المعنى يصحّ، إذ يمكن كذلك أن تكون الأدلة الظرفية أضعف من الأدلة المباشرة. إن ما يحدد مستوى الصدقية هو مصدر المعلومات التي خضعت لتحليل أتاح استنتاج الدليل الظرفي، ومنهجية التحليل المعتمدة.
اعتمد بلمار سجلات بيانات الاتصالات التي «تتضمن معلومات مثل أرقام هواتف المتلقين والمتصلين، وتاريخ الاتصال ووقته، ومدته، ونوعه (صوتي أم رسالة نصية)، والموقع التقريبي للهواتف الخلوية بالنسبة الى أبراج الاتصالات الخلوية التي نقلت الاتصال» (الفقرة 18). وحلل المحققون هذه المعلومات ليتمكنوا من خلال «الاقتران المكاني» (co-location) أن يحسموا هوية الأشخاص الذين استخدموا كلّاً من هواتف الشبكات المنفذة للجريمة والممهدة لها (attribution). وبالتالي فإن الأساس الذي انطلق منه بلمار لتحديد الدلائل الظرفية مبني على معلومات أولية جمعها من شركات الاتصالات الخلوية العاملة في لبنان، لكن الاتحاد الدولي للاتصالات الذي عُقد في المكسيك في تشرين الأول 2010 كان قد أكّد أن شبكات الاتصالات الهاتفية في لبنان كانت عرضة لقرصنة وتداخل وتعطيل من جانب عملاء إسرائيليين خلال المراحل السابقة. الشواهد على هذا الخرق عرضت خلال مؤتمر تقني مسهب نظمته وزارة البريد والاتصالات في الجمهورية اللبنانية بحضور الوزير شربل نحاس، ورئيس لجنة الاتصالات النيابية النائب حسن فضل الله في 23 تشرين الثاني 2010. وأبرز ما كشف عنه كان إقدام عملاء إسرائيليين على زرع أرقام خلوية في خطوط ثلاثة أشخاص منتسبين إلى حزب الله.
وكان الاختراق الإسرائيلي لقطاع الاتصالات الخلوية في لبنان قد كشف قبل ذلك بأشهر من خلال وقوع شخصين يعملان في شبكة «ألفا» اشتبه فيهما بالعمل لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية (شربل ق. وطارق ر.) في قبضة الضابطة العدلية اللبنانية. واعترف شربل وطارق خلال التحقيقات الاستنطاقية وأمام القضاء المختصّ بالاختراق الإسرائيلي لشبكة الاتصالات اللبنانية.
لكن مع ذلك أصرّ بلمار ورئيس المحققين في مكتبه ضابط الاستخبارات البريطاني مايكل تايلور على «استنتاج» ضلوع أربعة أشخاص في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مستندين إلى دلائل ظرفية أساسها معلومات مستقاة من شبكة الاتصالات الهاتفية في لبنان.
فـ«من المعقول الاستنتاج أن استعمال هواتف الشبكة الحمراء في 14 شباط 2005 يدلّ على تنفيذ الاعتداء على الحريري» (الفقرة 25ج) و«من المعقول الاستنتاج بناءً على مقارنة تحركات رفيق الحريري بالتحركات المتلازمة للهواتف الزرقاء وهواتف الشبكة الحمراء، أن المراقبة في تلك الفترات كانت إعداداً للاغتيال» (الفقرة 33) و«من المعقول استنتاج أن ماضي بدر الدين كرجل صاحب خبرة في ارتكاب الأعمال الإرهابية يدعم الاستنتاج بأن سامي عيسى هو اسمه المستعار» (الفقرة 29ج) و«من المعقول الاستنتاج أن عياش كان يتولى مهمة متابعة عملية إعلان المسؤولية زوراً» (الفقرة 32) و«من المعقول الاستنتاج من الاتصال الأخير داخل الشبكة الخضراء أن بدر الدين قد أصدر الإذن الأخير لتنفيذ الاعتداء» (الفقرة 48أ) و«من المعقول الاستنتاج من هذه الاتصالات أن بدر الدين أذن لعياش بشراء فان الميتسوبيشي كانتر، ثم تولى عياش تنسيق عملية الشراء» (الفقرة 42) ... ومن المعقول كذلك ألا يكون كلّ ذلك معقولاً.