أسوأ اللحظات النفسية التي يمر بها المرء هي اللحظات المركّبة من الزهو بدنوّ الانتصار، والمرارة لاستمرار واقع الخيبة. وقد قاسينا، منذ نهايةَ الأسبوع الماضي، تلك اللحظات الأليمة. سوريا تُمسك بالمعادلات الإقليمية والدولية، وتتحضَّر لنصرٍ صنعه رجالٌ أشاوس، قال الرئيس بشار الأسد، في خطابه الأخير، عن حق، إن الأرض لهم؛ أولئك الذين دافعوا عنها؛ لكن أحدهم، أحد أبطال الجيش العربي السوري الميامين، عاد من الميدان، فالتقى عائلته يوما أو بعض يوم، ثم ارتقى شهيدا، لا برصاص الإرهابيين، بل برصاص زعيم عصابة بلطجية، هاله أن العقيد حسان الشيخ...
لم يعطهِ الأولوية على دوّار في اللاذقية، فأرداه قتيلاً.
من الأمور الثانوية أن القاتل هو سليمان هلال الأسد، قريب الرئيس. فعصابات البلطجية، وزعماؤها، تحت شعارات الدفاع الوطني والولاء، هي واقعٌ ثقيل أسود، يقبع على صدور السوريين في مناطق الدولة، تماما كما تقبع التنظيمات التكفيرية الإرهابية على صدورهم، في المناطق المحتلة.
منذ وقت طويلٍ، كنا نراقب نموّ هذه الظاهرة المتكوّنة من عفن الفساد وفساد العنف، ومراكز القوى، وتجّار الحرب. تلك الشبكة التي امتصت دماء الشهداء، وسرقت حقوق ذويهم، وعربدت على المواطنين. غير أننا سكتنا، لكيلا نمنح الأعداء ما يتقوّلون به على الدولة الوطنية السورية التي تقع في صلب عقيدتنا وأملنا في مستقبل المشرق. اليوم، لا نستطيع السكوت؛ فنحن نعيش عشية النصر؛ وإذا كان بلطجي أزعر يملك كل هذا القدر من الاستهانة بحياة البشر، بل بحياة ضابط مقدام آتٍ من ساحات الوغى، فيرديه، بدم بارد، بسبب أولوية المرور؛ فهل يمكننا، إذاً، أن نأمل بأن تكون الجمهورية، لمن استشهد في سبيلها، وغامر بحياته من أجل وحدتها وكرامتها؛ أم أنها لمراكز النفوذ، والكمبرادور، وشبكات الجريمة، ولتجار الحرب والزعران والبلطجية والفاسدين.
قلبي مدمى للنهاية المأساوية التي ختمت حياة ضابط بطل، في يوم إجازته، وفي قلب اللاذقية، وأمام عائلته، على أيدي مجرم وضيع كان ــــ وأمثاله ــــ مَن فتح الثغر في جدران القلعة لتمر الرياح الصفراء، إلى وعي السوريين، وتشكّل حواضن المتمردين والإرهابيين.
العقيد حسان الشيخ، مهندس وخبير راداريّ وضابط ميداني مقاتل، خاض معارك شرسة، طوال سنوات الحرب، وتعرض لمحاولات اغتيال حقودٍ نجا منها؛ أرسلته القوات المسلحة، لنباهته واتقانه عدة لغات، في عدة دورات تدريبية، إلى أن صار كادراً عسكرياً من الطراز الرفيع، فاستحق التكريم من الرئيس، وساماً، واستحق التقدير من رفاقه في السلاح، حباً، ومن أهله وناسه ومواطنيه، احتراماً.
ولعل مستوى شخصية المغدور، المطلوب رأسه بالاسم من قبل التنظيمات الإرهابية، يجعلنا نفكر، مرتين، في ما إذا كان قتله تم بسبب خلاف مروري؛ فالأرجح، عندي، أن سليمان هلال الأسد، قبض من الإرهابيين أو الموساد، ثمن قتل ضابط مبدع في سلاح الجو.
جريمة سليمان هلال الأسد مثلثة الأثافي؛ فهي، أولاً، جريمة جنائية بشعة مافيوية ومستهترة ودنيئة. وهي، ثانياً، جريمة في زمن الحرب ضد الجيش العربي السوري ورمزيته وبطولاته. وهي، ثالثاً، جريمة أمن دولة، لأنها تفتّ في عضد الوحدة الوطنية، وتضر بمعنويات الجيش، وتنعكس على أدائه، وجماهير الدولة الوطنية، وتسيء للرئيس. وهذه، كلها، لا تجعل من سليمان هلال، «مجرد مواطن سوري» ــــ كما يقول محافظ اللاذقية ــــ ارتكب جرما، فيحال إلى التحقيق والقضاء؛ بل هو مجرم حرب، وخائن يطعن جيش الوطن في ظهره، ومخرّب للمعنويات العسكرية، ومؤذٍ لسمعة سوريا، مما يجعل الجهة المعنية بمحاكمته ــــ واعدامه ــــ ميدانيا، محكمة يشكّلها الجيش، وتنفّذ حكمها ثلة من رفاق الشهيد، وفي المكان نفسه.
وردتني، حتى كتابة هذه السطور، عشرات الرسائل حول التجاوزات في الساحل السوري، يندى لها الجبين، لن أذكرها حتى أتيقن منها، رغم أنها جاءت من مؤيدين خلّص للرئيس والنظام والدولة. هكذا نفهم انكفاء المواطنين، في عدة مناطق، عن الدفاع عن مناطقهم إلى جانب الجيش العربي السوري؛ فالجيش العظيم يمضي من معركة إلى أخرى، ليخرج المجرمون من جحورهم، فيمارسون البلطجة واللصوصية والاغتصاب.
آلاف الرجال والنساء، من مؤيدي النظام والدولة، يستحلفون الرئيس التدخل لوضع حد لسليمان هلال وعصابته، ولكل العصابات الشبيهة، غير أنني أرى أن اضطرار الرئيس للتدخل لضمان اعتقال الجاني ومحاكمته، في جريمة موصوفة، ناجمة عن سياسات غض الطرف عن العصابات، هو، في حد ذاته، مشكلة؛ فأين هي الدولة، وأجهزتها وقوانينها، إذاً؟
إذا كان الضباط المقاتلون الكبار، لا يأمنون، في الإجازات، على كراماتهم وحيواتهم وأعراضهم، وفي المناطق الآمنة بالذات؛ فما بالك بالمواطنين المدنيين المكسوري الجناح؟
بعض عائلة الرئيس الأسد، هو عبء عليه؛ كيس ملح على ظهر الرئيس، آن الأوان للخلاص منه، كما آن الأوان للتحرر من الخوف والحسابات، لدى المواطن السوري؛ فلا مجال لنصر حاسم، إلا بالتحشيد الجماهيري، القتالي والسياسيي. وهو تحشيد لا يتم بالأوامر أو بالاغراءات، وإنما بمنح السوريين، الشعور بالأمن والمواطنة والكرامة.
المطلوب الآن، بلا تأخير، هيئة عسكرية للقيام بحملة واسعة، وبصلاحيات استثنائية لاعتقال كل أعضاء العصابات الناشطة، تحت يافطة الدفاع عن الوطن، بينما هي تمارس القتل والسطو وفرض الخوّات وسرقة النساء؛ فإذا لم يجر ذلك سريعا، فلعلنا نمنح الزعران، سوريا، كهدية؛ حافظنا عليها، بعشرات آلاف الشهداء، وأعدنا فرض حضورها في السياسة الاقليمية والدولية، ولكننا فشلنا في وضع حد للمتاجرين بمأساتها، والمجرمين المحترفين والفاسدين، ومن يسر معهم من عصابات «داعش» ــــ الداخل.