نعيش اليوم في لبنان فصلاً جديداً من فصول الهستيريا السعوديّة التي بلغت أوجها مع تورّط مملكة آل سعود في الرمال المتحرّكة لليمن. فبعدما وضعت يدها على السواد الاعظم من الاعلام العربي الورقي والالكتروني، والسمعي ـــ البصري خصوصاً، عبر سلاح «الترغيب»، ما سهّل التضليل على نطاق واسع في حرب اليمن، ها هي المملكة الوهابيّة تستعمل سلاح «الترهيب»، وتمضي في محاولة تكميم الفضاء العربي عبر قمر «عربسات» التابع مبدئيّاً لـ «جامعة الدول العربية».
هذه الحرب الجديدة على حريّة التعبير في العالم العربي، لا تخوضها مملكة القهر مباشرة، بل من خلال الشركة التي تدير القمر الصناعي «عربسات» وتملك أكثر من ثلثها. فحسب ما كشفته بالأمس جريدة «السفير»، تلوّح الشركة المذكورة، ومقرّها الرياض، بفسخ تعاقدها مع الدولة اللبنانيّة، ونقل محطّة بثّها من منطقة جورة البلّوط (المتن) إلى العاصمة الأردنيّة، إذا لم تقم السلطات بـ «معاقبة» «الميادين» بتهمة «الاساءة إلى دولة عربيّة». الدولة العربيّة هنا هي السعوديّة طبعاً، أما الاساءة فهي «انتقاد وجّهه أحد الضيوف في احد البرامج، إلى القيادة السعودية. هذا كلّ ما في الأمر!»، كما يوضح لنا رئيس مجلس ادارة المحطّة الزميل غسّان بن جدّو، العائد لتوّه إلى بيروت، وقد اكتشف هذا الشق الجديد من الموضوع في الاعلام. «قرار عربسات صحيح»، يؤكّد بن جدّو، فقد تلقينا رسالة بهذا الأمر من ادارة الشركة. هي ليست المرّة الأولى التي نتعرّض فيها لهذا النوع من الضغوط. لكنّنا لم نكن ننوي أن نخرجَه إلى العلن، إذ اننا نفضّل العمل بصمت ومن دون ضجيج. «إجابتنا جاءت برسالة تحفّظ من خلال رد محامي القناة الذي بيّن أن هذا الاجراء الغريب من نوعه بحقّنا، ليس قانونيّاً. لم تجبنا ادارة «عربسات» حتّى الآن، ولا نزال في انتظار الرد بالقنوات القانونيّة». ويستدرك بن جدّو: «أما الجديد الذي لم نكن نعرفه، فهو الخطوة التصعيديّة، أي أن الضغوط باتت تمارس الآن على السلطات اللبنانيّة. إذا استجابت الدولة اللبنانيّة للضغط، ستكون ضربة مؤلمة لحريّة الاعلام التي تعتبر من أهمّ مكوّنات الهويّة اللبنانيّة… ناهيك بأنّه ليس اجراء قانونيّاً».
تهمة «الاساءة إلى دولة عربيّة»، فيرفضها الاعلامي المعروف جملة وتفصيلاً: «الانتقاد جاء على لسان ضيف، وهو لا يمثّل المحطّة. لسنا مسؤولون عمّا يقوله ضيوفنا، كما اننا لا نمارس رقابة على هؤلاء الضيوف المختلفي المشارب والآراء. هناك ضيوف من الخليج، لدى كل مشاركة لهم في برنامج حواري، يتقصّدون انتقاد «حزب الله» والقيادة الايرانية. هذا لم يزعج أحداً، ولم نحاول استبعاد أحد!». هذا هو المبدأ المؤسس لحريّة الاعلام، وللديمقراطيّة، والتعدديّة… قوانين بسيطة قد لا يفهمها بسهولة العقل الاستبدادي المصاب بجنون العظمة، خصوصاً حين يمسك الأفراد والمؤسسات والدول برسن البترو ــــ دولار.

غسان بن جدّو:
إنّها مسألة تراكمات ولن نخضع للضغوط

يصرّ رئيس مجلس ادارة «الميادين» على التذكير بأن المحطّة التي يديرها «تراعي التوازنات، وتعتمد الخطاب الهادئ، وتحترم رأي الضيوف طالما انّه لا ينزلق الى الشتم والتجريح»، ويعود الى العنصر المستجد في الموضوع: في وسع ادارة «عربسات» أن تقطع بثّ «الميادين» مباشرة من دون اللجوء إلى أحد» ـــ وهذا ما فعلته جزئياً حسب معلومات «السفير» إذ أوقفت البث عن قمر C5 الذي يغطي افريقيا ودول المغرب العربي ـــ «فلماذا تراها تقحم الدولة اللبنانيّة؟ هذا تهديد خطير للسيادة اللبنانيّة. ثم كيف تنقل الباقة إلى الأردن؟ هل يفقد لبنان القدرة على التحكّم بمحطاته؟»…
«إنّها مسألة تراكمات»، يقول غسان بن جدّو. «هم ومن وراءهم يدركون أنّهم كلّما أغلقوا باباً سنفتح أبواباً. وأن هدفنا ليس الاستعراض والا لتصرّفنا بأشكال أخرى، بل أن تشاهد شاشتنا من قبل كل الناس». ويستطرد: «اذا وضعت جانباً الاحصائيّات المزيّفة المشتراة. هناك دولة عظمى قامت بدراسة قبل أربعة أشهر، عن وضع الاعلام الفضائي العربي وزّعتها على أصدقائها وحلفائها، يظهر فيها بالأرقام نسب المشاهدة العالية التي نحققها. الأرقام لا نحب حتى نشرها. هذا ما يزعجهم على الأرجح كي يحاولوا اسكاتنا». ماذا إذا نفذت «عربسات» تهديداتها؟ يجيب بن جدّو: «عندنا بدائل تقنيّة. حتى مع عربسات يمكننا أن نناور. هناك أكثر من بلد لـ «الميادين» فيه مكتب إقليمي يمكننا أن نبث منه. لكنّها مسألة مبدئيّة! لا يمكننا الرضوخ لهذا الضغط. نقدّر عالياً موقف الدولة اللبنانية التي ترفض تعليق البث. ونحن نحترم الأصول والقواعد، مالياً وقانونياً، ليس هناك أي ثغرة يمكن لأحد أن يتخذها ذريعة لقمعنا».
في مواجهة «الغارة السعوديّة»، يبدو بن جدّو هادئاً، ويدرس خيارات عدّة، وسط ملاحقة شخصيات إعلاميّة وسياسيّة تقترح عليه تنظيم مهرجان تضامني. هذا الجزء الوازن من الرأي العام، يرى أنّه من غير المقبول أن تتحكّم قوّة ظلاميّة بالرأي العام العربي، وتختطف الوعي العربي. فهل حان الوقت كي نقول لهم: لا؟ وكي نأخذ المعركة بصدورنا؟ «خيارنا استراتيجي ونحن لا نسقط في الانفعال»، يرد زميلنا الذي يفكّر في عقد مؤتمر صحافي خلال الأيّام القليلة المقبلة، ليكشف خلفيّات القضيّة، بعدما صارت في الاعلام. «الأخبار» التي تحدّت المسخ، تتضامن مع المحطّة التي تبث على توقيت القدس، كي تبقى تنقل «الواقع كما هو» رغم وصاية ملوك الظلام.