لم ننمْ حتى صباح أمس. كنا متعبين وقلقين جداً، مثل كل السوريين «المقيمين» في الضاحية الجنوبية. عند التاسعة، قال لي أحد الجالسين قربي: «أجرِ اتصالاتك مع الجريدة التي تعمل فيها. قد يستطيعون إخراجنا من هنا». حاولت، لكن شبكة الاتصالات الخلوية لا تزال مقطوعة في محيط كنيسة مار مخايل. كنا مجموعة من الطلاب والنواطير والعمّال السوريين «المحقود عليهم». ثمة مجموعات مشابهة توزّعت في الأبنية المجاورة منذ مساء أول من أمس. ظننّا أننا نحمي أنفسنا إذا اجتمعنا في مكان واحد، وكان ظننا صحيحاً.
«إذا حصل مكروه مّا للبنانيين المخطوفين في حلب، نُباد جميعاً» قال شاب آخر تعرفت إليه في هذا المكان الضيّق. رددت عليه بحدّة: «لكن ما ذنبنا نحن؟ هل الـ25 مليون سوري خاطفون؟». هدّأنا أكبرنا عمراً، ونصحنا بالتفكير في طريقة للخروج من هنا. لكن كيف؟ ما شهدناه مساء الثلاثاء كان أكثر من رادع لأي محاولة للخروج، حيث يبحث جميع مَنْ في الخارج عن سوريّ يصطادونه، كأننا جنود إسرائيليون، لا أبناء تاريخ ومصير وألم واحد! قفز أحد الشباب من مكانه قائلاً «رجعت الشبكة». وعلى نحو عفوي، أمسكنا جميعاً هواتفنا، وبدأنا إجراء الاتصالات. نجح أغلب شباب المجموعة في عقد صفقة مع «معلّميهم» في الشغل، أو زملائهم في الجامعة، لإخراجهم من هنا. وبعد دقائق، نجحت اتصالاتي مع بعض «المثقفين» اللبنانيين في الضاحية الجنوبية، حيث وعدني أحدهم بتهريبي من «المنطقة الساخنة» كما وصفها. حملت بعض أغراضي وكتبي، ولابتوبي، وجلست منتظراً صديقي الذي سيصل بعد قليل، وسيكلمني رافعاً صوته كي يسمع الجميع لهجته اللبنانية، ما قدْ يريحهم ويسهّل خروجي. صعدنا السيارة وقصدنا أقرب منطقة تقع خارج الضاحية. رميت نظرات وداعية إلى جدران البيت الذي أسكنه، وإلى الحارة، قاطعاً عهداً على نفسي بعدم الإقامة مرة أخرى في الضاحية الجنوبية. سألني صديقي عمّا جرى لي. رويت له القصة بحرقةٍ لم أستطع كتمانها.
قلت له إنّني كنت أستقل «فان 4» عائداً من الحمرا إلى بيتي في الضاحية عند الساعة 6:30 تقريباً من مساء الثلاثاء. كنت فرحاً لأن الطرقات سالكة في الطيّونة وغيرها من المناطق التي قيل إنها مقطوعة. لكن الفرحة انقلبت رعباً، عندما وصلنا إلى طريق الإخلاص ـــ مار مخايل. كان العشرات (ولا أبالغ إن قلت المئات) من الشبان يغلقون الطريق العام بأجسادهم، و«موتسيكلاتهم»، ودواليبهم المشتعلة. بعضهم يحمل سيوفاً و«شنتيانات»، وبعضهم سكاكين، وأغلبهم لا يحملون سوى نقمتهم على أي سوري سيمرّ هنا. اقترب الشباب الغاضبون من السيارة، وسأل أحد حاملي السيوف سائقنا: «معك سوريين؟؟!». كنا ثلاثة. أنزلونا وراحوا يتفننون في إغاظتنا وإذلالنا. أحدهم يقول «خلّوني اقتلهم»، بينما يلعب الثاني دور الرحيم قائلاً: «لا لا. الشباب مش ذنبهم». بين هذا وذاك، وجدنا أنفسنا محشورين على كتف الطريق، إلى جانب العديد من الشباب السوريين «المعتقلين». الشباب الغاضبون يوقفون كل من يشتبهون بـ«سوريّته»، كما يوقفون كل السيارات بحثاً عن واحد من أبناء بلدي. كنا متكئين على الجدار ننتظر حدوث العديد من الاحتمالات، الموت من بينها بكل تأكيد. عزّز هذا الشعور لديّ مظهر الشبان الغاضبين المحيطين بنا، والذين يقذفوننا بكمّ هائل من الشتائم والتهديدات: «والله ما رح نخلّي واحد منكم»، «مين فيكم حلبي؟»، «بدكم حرية ما؟؟»، «لك مين انتوا لتخطفوا لبنانية (لبنانيين)!؟»... لم أقل لهم إنني صحافي، لأنني أشكّ في تقديرهم لهذه «السلطة الرابعة». اكتفيت بانتظار المصير الذي أتقاسمه وباقي المصفوفين أمام الجدار. لكن خوفي من الموت أو «الضرب» لم يحدث. ثمة عاقلون في «حركة أمل» أنقذونا. أو أنقذوني على الأقل، لأنني لا أعرف مصير الشباب الآخرين. أنقذنا أيضاً، خطاب السيد حسن نصر الله الذي سمعنا أنه تحدّث نيابة عن الرئيس نبيه برّي، داعياً الناس إلى الهدوء. هكذا، شاهدنا كبار مسؤولي «أمل» في المنطقة وهم يحاولون كفّ أيدي شبابهم عن السوريين. لكن هذا لا يعني أن «حوادث فردية» لم تقع. بعض الشباب اللبنانيين ثأروا من السوريين بوسائل مختلفة: أغلقوا محالّهم، طردوهم من العمل، وراحوا يزعجونهم بالطرق على أبواب بيوتهم بشكل هستيري مع سيل من الشتائم العنصرية.
مشيت خطوات قليلة بحثاً عن أقرب مبنى يعمل فيه سوري ناطوراً. وجدت مقصدي بعد أمتار. دخلت، ووجدت مجموعة الشباب الذين سيقاسمونني التعب والقلق حتى صباح أمس. كنا غاضبين جداً. راح أحدنا يسرد قصة إيواء السوريين للبنانيين اللاجئين إلى محافظاتنا ومدننا أثناء حرب تموز 2006. المقارنة بين معاملة السوريين للبنانيين في الشام، وبين معاملة بعض اللبنانيين لنا هنا، أبكت البعض. اقتراحات كثيرة وُضعت على طاولة (ليس ثمة طاولة... مجرّد سطل دهان يُستعمل للغسيل اليدوي، قلبناه لكي يشبه طاولة) الحوار، من بينها «أن يعود كل السوريين الموجودين في لبنان إلى بلدههم. حينها، سيعرف اللبنانيون قيمتنا». بعض هؤلاء الشباب، لا سيّما من لديه زوجة وأولاد، نفّذ الاقتراح حقيقة. وبعضهم الآخر تراجع عن عمله، رافضاً خدمة من يذلّه من دون ذنب.