في العاصمة دائرة انتخابية منسيّة، دائرة بيروت الثانية. منذ أيار 2008، نسيت كل الأطراف السياسية أنّ في بيروت تجمّعاً انتخابياً يضم الباشورة والمدوّر والمرفأ. كان اتّفاق الدوحة قد حسم الانتخابات في هذه الدائرة عبر توافق قوى 8 و14 آذار على تقاسم مقاعدها الأربعة. فتمثّل كل من حزب الطاشناق وأرمن 14 آذار وحركة أمل وتيار المستقبل بمقعد.
مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، وتأليف حكومة «اللون الواحد» برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، سقط اتفاق الدوحة بحسب الأكثريين والمعارضين. سقط الاتفاق فعادت «الرهجة» الى هذه الدائرة، ولو أنّ الحديث في تفاصيل الانتخابات لا يزال هامشياً، باعتبار أنّ الموعد لم يحن بعد. كل الأطراف المعنية تقول علناً إن من المبكر الحديث عن معركة بيروت الثانية، لأن مصير القانون الانتخابي لا يزال ضبابياً. لكن هذه الضبابية لا تمنع معظم المعنيين بالشأن الانتخابي من التأكيد، خلف الأبواب المغلقة، أن كل الحوار الانتخابي ليس سوى ضجيج يخفي خلفه حقيقة أن القانون الوحيد الذي ستجرى الانتخابات وفقاً له، هو القانون المعتمد حالياً، أي قانون 1960.
بناءً على ذلك، لا يمكن القول إلا أنّ في بيروت الثانية معركة جدية. توزيع عدد الناخبين على الطوائف كفيل بإعطاء الصورة اللازمة لجدية المعركة: السنّة: 30 ألف ناخب. الأرمن: 29 ألفاً. الشيعة 26 ألفاً (بحسب أرقام عام 2009).
واستحقاق 2009 يشير إلى أنّ القوى حشدت بعض قوتها للمشاركة في المعركة، رغم كونها محسومة بفعل الدوحة. إذ شارك في الاستحقاق 46% من الناخبين السنّة (14 ألف صوت) و38.3 من الشيعة (10 آلاف صوت)، بينما اكتفى 6.4 من الناخبين الأرمن بالمشاركة (1850 مشاركاً)، وذلك لكون المرشحين الأرمنيين، أرتور نظاريان وسيببوه قلبكيان، فازا بالتزكية بعدما سحب أمين سر «شبيبة جورج حاوي»، رافي مادايان ترشيحه.
أمام هذه الأرقام، تتوّقف القوى المعنية بالمعركة، ولو أنها لا تزال تتصرف على قاعدة أن الاستحقاق بعيد نسبياً. في تيار المستقبل، يبدو أحد المعنيين بالانتخابات في هذه الدائرة متفاجئاً عند سؤاله عما يتوقعه من نتيجة في «بيروت الثانية». يتخطى المفاجأة ليجيب بعد مراجعة سريعة للأرقام: «سنربح المعركة فيها». يأخذ نفساً عميقاً قبل أن يضيف: سيكون على حزب الله وحركة أمل أن يحشدا 90 في المئة من الناخبين الشيعة ليقترعوا جميعاً لمصلحة لائحة 8 آذار حتى تفوز تلك اللائحة. فالنائب نهاد المشنوق تمكن من حشد 46 في المئة من الناخبين السنّة في عام 2009، رغم أنه كان يضمن فوزه. وإذا تمكنا من اختيار شخصية شيعية «مرتّبة»، سيكون بإمكانها الحصول على أكثر من ألفي صوت شيعي». بعد هذه المقدمة، ينتقل السياسي المستقبلي إلى الحديث عن ضرورة اختيار المستقبل لمرشح «قادر على إرساء تفاهم مع كل من حزب الله وحركة أمل وجمهورهما».
الوضع خطير على تيار المستقبل في هذه الدائرة، إذ يمكن وضع فرضية واقعية: الفارق بين المستقبل وخصومه، حركة أمل وحزب الله، لا يتجاوز 4000 صوت، هذا إذا تمكن المستقبليون من الحصول على أصوات ناخبين شيعة، بنسبة تفوق ما يحصلون عليه في أي دائرة انتخابية أخرى. لكن، إذا ارتفعت نسبة المشاركة الأرمنية إلى 30 في المئة، (وهي أقل من نسبة المشاركة في دائرة بيروت الأولى)، أي نحو 10 آلاف ناخب، وإذا حصل حزب الطاشناق على 70 في المئة من أصوات الأرمن (وهي نسبة تقل عما حصل عليه الحزب في «بيروت الأولى») تصبح المعركة شبه محسومة لقوى 8 آذار، إلا إذا ظهرت مفاجأة كبرى من صناديق الاقتراع المخصصة لأبناء الطوائف المسيحية غير الأرمنية.
كما في قضاء المتن الشمالي وفي دائرة بيروت الأولى، تحور الأرقام وتدور لتعود عند الناخب الأرمني. أجواء حزب الطاشناق تتحدث بقليل من القلق عن مصير بيروت الثانية. لا يقدّم أي من مسؤولي الحزب رقماً تسعى الماكينة الطاشناقية إلى إنزاله إلى صناديق الاقتراع. البحث الطاشناقي لا يزال في مكان آخر: «قسم كبير من ناخبينا خارج بيروت وخارج لبنان، كيف يمكن العمل على إشراك هؤلاء في العملية الانتخابية»؟ يجيب مسؤول طاشناقي آخر في بيروت: «لحزبنا أكثرية واضحة في بيروت الثانية، وهي أكثر وضوحاً من التأييد الذي نحظى به بين الأرمن في بيروت الأولى. وبالتالي، المعركة ستكون سهلة بالنسبة إلينا، إذا خيضت الانتخابات ولم تتم العودة إلى صيغة اتفاق الدوحة».
أجواء حزب الله غير قلقة أيضاً. يقول مطلعون على أجواء الحزب إنّه «مرتاح، ويمكن الإشارة إلى الأرقام التي سجّلها الناخبون الشيعة في دائرة بيروت الثالثة». عام 2009، كانت نتائج الدائرة الثالثة في بيروت محسومة لمصلحة تيار المستقبل. ورغم ذلك كانت المشاركة الشيعية بنسبة 44%، الأمر الذي يدفع مقربين من الحزب إلى القول: «من دون معركة، سجّلت نسبة 38% في بيروت الثانية، وبوجود معركة، ستكون نسبة المشاركة أكبر بما لا يُقاس».