مثل يوم أمس، قبل 18 عاماً، في 27 شباط 1994، وقع انفجار كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل. أحد عشر شهيداً على المذبح في لحظة. بعدها آلاف الضحايا على مدى أعوام، بين استدعاء واعتقال وتعذيب وتجريم. بعد الجريمة المتمادية بأحد عشر عاماً، صدر في تموز 2005 قانون عفو، شطب الجريمة وحيثياتها من سجلات قضاء الدولة، فشُطبت حتى من قيود العدالة، ضاعت حقيقتها، حتى صارت قدراً. اليوم تمرّ الذكرى بصمت مريب يلفّ كل أطرافها. كأنهم كلهم متهمون. كأنهم كلهم يهربون من شيء فيها، من مسؤولية أو ذنب أو دم أو أكثر. فيما ينصبّ كل التركيز على جرائم أخرى. كأن القتل بدرجات، أو القتلى بمستويات، أو كأن الحقيقة في أي جريمة لا تكون ضرورة إلا بقدر ما تكون مجدية في السياسة ومربحة في ملحقات السياسة.
في ظل هذا الصراخ بين 14 شباط و14 آذار، ثمة واجب أخلاقي وإنساني بالتذكير بأن ثمة في تاريخنا ما سبق هذين التاريخين، وأن ما سبق أولى وأقدر على الإضاءة والفهم. فمرحلة الوصاية السورية هي مرحلة مؤسسة لوجدان شعب كامل، حيال مفاهيم الحرية والسيادة. تماماً كما هي مرحلة الاحتلال الإسرائيلي بالنسبة إلى مفهوم الوطن والاستقلال...
في جريمة تفجير الكنيسة ثمة قراءات ثلاث كاملة، موثقة، ثقيلة في اتهامها، ومتناقضة بالكامل في وجهة الاتهام.
قراءة جهة الدفاع في القضية ظهرت شبه كاملة في جلسات المحاكمة، بالوقائع الموحى بها والأسماء شبه المصرح عنها والمرتكبين الذين كان الغمز صارخاً من قناتهم. تقول تلك القراءة إن «النظام الأمني اللبناني السوري المشترك» كان قد قرر يومها التخلص من سمير جعجع، فأقدم على تلك الجريمة ولفّق مسبقاً سيناريو اتهامه بها. وتفصِّل القراءة حيثيات روايتها: كيف جُند رجل مغمور، اسمه جرجس توفيق الخوري، لمجرد سوق الاتهام، والربط بين جماعة ينتمي إليها شقيق له وبين جعجع. وكيف «أوحيت» الأجوبة في التحقيق مع رجل دين شاهد على الجريمة، لربط الحلقة المفبركة. ومن ثم كيف تكفلت أساليب التحقيق «الحديثة» بالوصول إلى الاعترافات اللازمة والإفادات المحكمة، انتهاءً بحكم قضائي وقع تحت ضغطين: رفض بكركي للإدانة الملفقة، وإنكار الخوري لكل ما ألصق به أمام المحكمة. فكانت التسوية: جعجع بريء من الجرم، لكنّ بعضاً من عناصر «قواته» متورطون.
قراءة الادعاء في القضية نفسها، استكملت أخيراً عبر أكثر من كلام وتصريح ومقابلة وحديث لجميل السيد، تقول إن جعجع كان يعدُّ فعلاً للانقلاب على الوضع القائم سنة 1994، وأنه كان يراهن على انتفاضة مسيحية تُسقط السلطة وتقسم الجيش وتعيد رسم خطوط تماس تضمن له حيزاً أكبر في لعبة الطائف التي انقلبت عليه، فقرر الانقلاب عليها. وأنه بدأ يُعدّ لتلك الانتفاضة عبر عمليات تفجير تستهدف البيئة المسيحية بنحو التفافي «مؤامراتي»، حتى وقع تفجير الكنيسة. وأن القوى الأمنية يومها كانت قد توصلت إلى رأس الخيط الذي يربط تلك الجرائم بجعجع. فمواد التفجير المستخدمة مطابقة لتلك المصادرة من مستودع «قواتي» اتخذ من أحد الأديرة مقراً له، وأن الراهبة الرئيسة في الدير تعرفت إلى أحد العناصر الموقوفين ممن كان يأتي إلى الدير لسحب بعض من تلك المواد. قبل أن تدوّي مفاجأة تلك الرواية بأنه بعد توقيف العنصر المقصود، تدخل شخصان معنيان، أصبحا اليوم نائباً حالياً ومرجعاً رسمياً كبيراً في الدولة، لدى غازي كنعان، ساعيين لإطلاق سراحه. وأنه في غفلة من إحدى ليالي المناوبة أفرج عنه، فغادر البلاد وانقطع خيط التحقيق ولفلفت القضية.
وبين الروايتين قراءة ثالثة لاتهام جهات أصولية معروفة، اشتبه في تنفيذها جرائم مماثلة، من البلمند إلى مختلف المناطق اللبنانية. وكانت التحقيقات الأولية في الجريمة حافلة بمؤشرات كثيرة إلى هوياتها وخلفياتها والدوافع، قبل أن تُسحب كلياً من ملف القضية القضائية، بحجة أنها حلبة نظرية جُربت في التحقيق وتأكد ضلالها. واللافت هنا أن قانون العفو عام 2005 لم يكن في حاجة إلى إسقاط جريمة تفجير الكنيسة، ليخرج سمير جعجع من سجنه. لكن القانون نفسه شمل أصوليين متهمين في جرائم أخرى، قيل إنهم حلقة في السلسلة المشابهة لتفجير الكنيسة...
بعد 18 عاماً على الجريمة، يبدو كل ما فيها مريباً. أين هو جرجس توفيق الخوري؟ لماذا سكت على ظلمه وفضل التواري، ولماذا رذل حزبه بطولته، بدل تقديمه «شهيداً حياً» مثل آخرين؟ أين هم المحكومون غيابياً؟ لماذا لا يمثل أحدهم ويطلب إعادة المحاكمة لإثبات البراءة؟ وأين هي الكنيسة في اختيارها الصمت حيال ما أصابها، وبطريركها أمس بالذات يطلب عكس ذلك إزاء كل قهر أو ظلم؟
كثير من عناصر الريبة، في ملف سيكتب التاريخ أن كل عناصر الحقيقة فيه متوافرة، وقد تكون يوماً في كتاب أسود.