كلا الحدثين، السياسي في تونس والأمني في سوريا، يدير أحدهما ظهره للآخر، في ظلّ انقطاع شبه كامل لأيّ حوار بين الرئيس بشّار الأسد وخصومه العرب والغرب حيال الأزمة الدموية في سوريا. يتجاهل الأسد الضغوط والعقوبات القاسية التي يتعرّض لها نظامه، ويثابر على الخيار الأمني ضد المعارضين المسلحين، في محاولة منه لفرض موازين قوى جديدة، تؤكد وجوده هو على رأس التفاوض على مصير بلاده، تحت سقف نظامه لا بعيداً منه. كذلك يفعل العرب والغرب المناوئان له بقطع كل حوار مباشر معه، وقصر التخاطب على الإعلام واتخاذ عقوبات وإجراءات صارمة ضده. يُعوّلان على معارضتين لا تتحدّثان بعضهما مع بعض إلا لإبراز الفروق والتناقض والخلاف على الموقف من التدخّل العسكري الخارجي. يميّز العرب والغرب بين المجلس الوطني وسائر المعارضين. يدعو الأول إلى مؤتمر تونس، والباقين إلى فكّ النظام.
بذلك يبدو المساران السياسي والأمني في خطين متوازيين، لا يلتقيان في أيّ مكان، ومن دون أن تشق المسألة السورية طريقاً إلى التسوية.
ومع أن مؤتمر أصدقاء سوريا لا يعدو كونه مكسباً ديبلوماسياً آخر للعرب والغرب بعد تصويت الأمم المتحدة، ومحاولات شتى بذلها مجلس الأمن لإصدار قرار ضد النظام، وحمل الأسد على التنحّي، إلا أن التطور الفعلي الذي يحيط بما يجري في سوريا يقتصر على الشقّ الأمني، بعدما تيقّن الأسد من أن الدعم الروسي الذي يختلط فيه التأييد السياسي بشحنات الأسلحة ومعلومات الاستخبارات وأدوار الخبراء بات يمثل الحماية الرئيسية للرئيس والنظام ـــــ وتكاد تكون الوحيدة ـــــ من أيّ تدخّل عسكري خارجي.
على نحو كهذا، تصبح توصيات مؤتمر أصدقاء سوريا قليلة الفاعلية في الداخل السوري، وكثيرة الاستثمار السياسي في الخارج، سواء بالنسبة إلى فتح ممرّات إنسانية أو الاعتراف بالمجلس الوطني ممثلاً شرعياً للشعب السوري، أو تأليف قوة عسكرية عربية لوقف العنف وإدارة المرحلة الانتقالية. كل من التوصيات الثلاث هذه التي تتعطّش إليها المعارضتان السلمية والمسلحة لا يسعه أن يعبر بلا موافقة النظام، أو على أنقاضه. وهو بالتأكيد لن يوافق على أيّ منها. وعلى غرار مؤتمر أصدقاء سوريا الذي يتوزّع تأثيره في كل مكان من العالم سوى في الداخل السوري، فإن الاستفتاء على الدستور الجديد الذي دعا إليه الأسد غداً الأحد لن يجد صداه سوى في سوريا.
يدفع تناقض المواقع والاصطفافات الوضع السوري إلى مزيد من التدهور، على نحو مشابه لما رافق السنة الأولى من الحرب اللبنانية عام 1975، عندما أخفق تدويل الأزمة ثم تعريبها، وتُركت بين أيدي اللاعبين المتنازعين ـــــ فلسطينيين ولبنانيين ـــــ إلى أن نضجت تدريجاً من النصف الثاني من عام 1976 مؤشرات التسوية. لا ينسى اللبنانيون عشرات الوساطات التي تولتها فرنسا والولايات المتحدة والفاتيكان، وكذلك موفدو دول عربية، حتى اتفق الجميع على وضع الحل الأمني والسياسي في يد سوريا، والإذن لها بدخول جيشها لبنان لفرض التسوية على الجميع. في وقت لاحق جيء بالغطاء العربي وأخفى وراءه دعماً غربياً. جرّب اللبنانيون ذلك مرة ثانية في اتفاق الطائف عام 1989. تقيم سوريا اليوم في حال مشابهة تقريباً. أخفق التعريب والتدويل، من غير أن يتمكّن الرئيس السوري من قطف ثمار الحل الأمني بعد، ولا إقناع معارضيه بالإصلاح في ظلّه. في المقابل لا يسع المعارضين هؤلاء، السلميين والمسلحين، إطاحةُ الأسد عسكرياً ولا تدمير نظامه بتفكيك جيشه واستخباراته وإدارته، بل أحالوا تظاهرات الاحتجاج مغاطس دموية بينهم وبين الجيش.
وشأن الكثير الذي قيل في الحرب اللبنانية، يريد النظام السوري تسوية من حول إصلاحات دستورية وسياسية رفضتها معارضة الخارج قبل تنحّي الرئيس، لكن الطرفين المصرين، كلٌّ على طريقته، على حسم نهائي ضد الآخر، لا يسعه فرض هذا الحسم: لا الأسد بجيشه واستخباراته، ولا المجلس الوطني بتوسّله من الغرب تدخلاً عسكرياً لخلع الرئيس السوري بالقوة.
تحت وطأة هذا التجاذب، يخرج مؤتمر تونس وقد افتقر إلى عناصر القوة التي أوحى بها، وكان يتطلبها:
1 ــ لأن الهدف منه تقديم مساعدات إنسانية، لا الخوض في قرارات أساسية تقلب توازن القوى الداخلي، وتحيل الدول المشاركة فريقاً مباشراً في النزاع، تجنّب مؤتمر تونس تجريد الرئيس السوري ونظامه الشرعية الدولية، واكتفى بضم المجلس الوطني إلى المجتمعين كي يمنحه صفة تمثيلية إضافية ضيّقة، يتمتع بها أساساً، لا تنقض شرعية النظام ووجوده في قلب المجتمع الدولي، على وفرة ما يُقال فيه. تُقتطع للمجلس الوطني قطعة من الشرعية كي يكون في ما بعد جزءاً من التسوية، لا صانعها.
2 ــ من دون مجازفة تقضي بإقامة منطقة عازلة عند الحدود التركية أو اللبنانية أو الأردنية مع سوريا، يصبح تسليح المعارضة ـــــ المسلحة أساساً ـــــ متعذّراً لأسباب تتصل مباشرة بوسائل إيصال السلاح إليها في المناطق الأكثر سخونة في المواجهة، كحماه وحمص، اللتين تقعان في وسط سوريا، وكذلك جنوب إدلب المحاصر بالجيش السوري الذي لم يتردّد في حمأة المواجهة في بلوغ الحدود التركية. الأمر الذي برّر تمركز قيادة الجيش السوري الحرّ داخل الأراضي التركية، وتشتيت أفراده على الميليشيات الموزّعة على مناطق تقع في قبضة الإخوان المسلمين والتيّارات السلفية وتحديداً الوسط السوري المحيط بحماه وحمص، صعوداً إلى الشمال الغربي في إدلب، وإخفاقه في السيطرة الفعلية على مناطق في هذا النطاق أو في وسط البلاد أو في جنوبها كدرعا، وفشله في المحافظة على ريف دمشق، بعدما أوشك على أن يضع بين يديه مفتاحي العاصمة: المطار والحدود الشرقية مع لبنان.
3 ــ من دون منطقة عازلة تُقتطع من سيادة النظام وسيطرته على سوريا، وتتيح للمعارضة قاعدة تجمّع وتنظيم يلوذ ظهرها بتركيا أو الأردن أو لبنان، لا يكتسب الكلام عن تسليح المعارضة جدّية تذكر. الواقع أن المعارضة المسلحة ـــــ كجيش الانشقاق ـــــ لا تحتاج إلى سلاح خفيف متوافر لديها بالآلاف المهرّبة من لبنان وتركيا والعراق، بل إلى أعتدة ثقيلة كالتي يستخدمها الجيش السوري النظامي في المواجهة، وتمكّنه من السيطرة السهلة على المناطق التي يهاجمها.
إلا أنها تحتاج أساساً إلى المنطقة التي تطبعها بهويتها المناقضة لنظام الأسد وحزب البعث، وتتحوّل قاعدة سياسية بمقدار ما تكون عسكرية. فلا يعود المجلس الوطني، كاليوم، ضيفاً على باريس ولندن والرياض والدوحة والقاهرة.