لم تحظ أية جولة من جولات الاشتباكات في طرابلس بما حظيت به الجولة الأخيرة من خوف وهلع لدى سكان طرابلس وزائريها على حد سواء. تفجيرا مسجدي السلام والتقوى في المدينة وبدء معارك القلمون في سوريا والاعتداءات على أبناء جبل محسن في طرابلس كانت تشي بمعركة وشيكة مقبلة. لذلك ما إن علا صوت الرصاص حتى فرغت شوارع طرابلس من المارة، وتراكمت السيارات على الطرقات الفرعية، فأحدثت اختناقات غير مألوفة، استدعت مناشدة القوى الأمنية تخفيفها، وجرى التعبير عنها في كثير من مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات بلغت حد توصيفها بـ«التاريخية».
كل التصريحات عن توسيع صلاحيات الجيش ـــ بما في ذلك الإشارة إلى وضع مئات العناصر من قوى الأمن الداخلي مع عرباتهم المدرعة بإمرته ـــ لم تكن كافية لطمأنة السكان. ومن شدة القلق، افترض الناس أصوات الرعد الأولى إيذاناً باستخدام سلاح نوعي في الجولة الموعودة. كان الاحتقان ولا يزال في ذروته على ضفتي النزاع الطرابلسي. ما اصطلح على تسميتهم أولياء الدم، لا يحول بينهم وبين المعركة سوى حل الحزب العربي الديموقراطي ومعاقبة مسؤوليه.
وبدورهم، أهالي جبل محسن صار بينهم أيضاً أولياء دم، بعد حادثة الاعتداء على الباص الذي كان يقلّ عمالاً من جبل محسن وإطلاق النار على أرجلهم، وحوادث أخرى لاحقة وسابقة، طالت أشخاصاً ومحال يملكها علويّون في طرابلس. صبيحة اليوم الذي حصلت فيه حادثة الباص في مطلع الشهر الماضي، كما الأيام السابقة، منذ بدء خطة طرابلس الأمنية الأخيرة، كان جبل محسن أقرب إلى ثكنة عسكرية. حواجز الجيش وآلياته منتشرة في كل مكان، ومع ذلك، كان أهالي الجبل في حال ارتياب شاملة. لا يخرج أحدهم إلا لقضاء أمر ضروري.
يعرف سكان الجبل والتبانة وجوه بعضهم بعضاً. لذلك، يختار العامل في تنظيف البيوت ع. م. الطريق الرئيسية بين الملولة وساحة التل. الطريق التي يتجنبها أغلب المارة، بالنظر إلى ما تتعرض له من قنص، هي الملاذ الأكثر أمناً بالنسبة إلى ابن الجبل، شرط عدم خروجه بواسطة أي سيارة من سيارات الجبل، فهي معروفة بدورها. يتحرك ع. م. على متن دراجة نارية، يلتف حول بعض البنايات، ويدلف إلى الطريق الرئيسية، حتى يبدو كأنه قادم من شمال المدينة. لا يزال عامل التنظيف يتردد إلى البيوت والمكاتب نفسها التي اعتاد تنظيفها. لم يبدل أحد طريقة معاملته، «بيعرفوا إني علوي، بس أنا ما خصني بالانفجارات»، يقول ذلك، رغم عدم سؤاله عن تفجيري مسجدي السلام والتقوى، وكأنه يدفع عنه ضمناً تهمة التفجير التي باتت لصيقة بكل علوي في طرابلس. فالأخير أصبح مداناً، ليس حتى يثبت العكس، إنما لو ثبت العكس.
لا تقتصر الضائقة على العمال الذين باتوا يخشون ارتياد طرابلس، بل طاولت أصحاب المحال والمصانع في بيروت وجبل لبنان الذين استغنوا عن كثير من عمال الجبل بسبب تغيبهم عن العمل خلال جولات القتال المتتالية. هكذا يصف أحد تجار الجملة أبو محمد فضة حجم الضائقة الاقتصادية التي تخيم على جبل محسن، ويضيف: «إن تراجع نشاط تجار الجملة أيضاً أدى إلى صرف الكثير من العمال». فهو بدوره أقفل صالة عرض لتجارة الألبسة بالجملة. تقع الصالة في شارع سكة الشمال، القريب من محور باب التبانة. المنطقة التي تعتبر «من أقوى المناطق التجارية»، لم تخسر زبائن الجملة فحسب، بل حتى سكان الجبل باتوا يترددون في الذهاب إليها بسبب رصاص القنص. أما التجار، يضيف أبو محمد، فقد خسروا أكثر من ثلاثة أرباع رساميلهم، وخصوصاً أن التجارة برأيه «رأسمال ودين ومدين». يصف علاقته بتجار طرابلس بالجيدة، وهي لم تنقطع رغم جولات القتال المتكررة، لكن يحدث خلال المطالبة بسداد الديون أن بعضهم «يقلب فجأة». وعما يحكى عن دعم يتلقاه أهالي الجبل باعتبارهم جزءاً من فريق سياسي، قال أبو محمد: «قديماً كنا نقول صيت غنى ولا صيت فقر، لكن اليوم صارت الحقيقة إنو صيت فقر أحلى من 600 صيت غني». في جبل محسن، يحدق السكان بأي وافد جديد. ومع ذلك يتجنبون مضايقته، رغبة منهم بتحريك عجلة السوق. في واحدة من ساعات الهدنة، كان بضعة رجال في أحد مقاهي جبل محسن، أمام مستوصف حركة الشباب. لا بد من جهد لإقناعهم بالتحدث عن تفاصيل الحال، فيقول أحدهم: «الجبل مطوّق، والحالة مبيّنة». ويضيف: «مبارح ضرب فلان وقبله طعن غيره بسكين» وعلى أية حال «بتقدر تشوف محسن عابد» (أحد المسؤولين في الحزب العربي الديموقراطي) للحديث عن مجمل الوضع. يقيم عابد في إحدى البنايات المواجهة لمحور المنكوبين. يقع المنزل خارج المنطقة الآمنة (نسبياً) من الجبل، أي بعد بوابة كبرى تحجب الشارع الرئيسي، وتحمي المارة من رصاص القنص. البوابة عبارة عن ألواح معدنية مغطاة بألواح كاوتشوك تدخلها أسلاك معدنية، وهي مركبة على دواليب، تسمح لها بإقفال الشارع كلياً، عندما يشتد القنص.
بسؤال عابد عن الوضع المعيشي، يقول: «عنا ضيقة؟ نعم، مزعوجين كتير»، ويستطرد في شرح ما لحق بالطائفة العلوية من حرمان، بقوله «القصة مش علوي وسني، هي قصة اضطهاد بلشت مع العثماني وكملها الفرنساوي، والدولة اللبنانية عملت سقف الوظيفة للعلوي عامل تنظيفات ولو كان معه إجازة جامعية». ثم يشرح ما لحق بعلويي طرابلس من تهجير مع بداية الحرب الأهلية، ليعودوا إلى طرابلس مع دخول قوات الردع العربية إلى لبنان، وأن بداية إنصاف العلويين حدثت مع اتفاق الطائف الذي منحهم مقعدين نيابيين، ومع ذلك لم يحصلوا على وظائف مرموقة في الدولة.
وعن الوضع الميداني يقول: «سقوط جبل محسن يعني حرباً أهلية، هيدا بالمبدأ، ومن ناحية ثانية: ما حدا بيقدر يفوت ع الجبل». وبرأيه ما يجري محاولة دولية لإقامة حزام معاد لسوريا، يمتد من بلدة القلمون جنوبي طرابلس حتى منطقة القلمون في ريف دمشق، كمعادل للمقاومة بوجه إسرائيل في الجنوب اللبناني.