الساعة الخامسة والنصف تماماً، بدا عقد الحضور مكتملاً في مركز عصام فارس. لقد مرّ 93 عاماً على إعلان المندوب السامي للاحتلال الفرنسي الجنرال هنري غورو «دولة لبنان الكبير». الكيان في حاجة إلى مراجعة نقديّة عميقة، على غرار ما حاول فعله ضيفا المركز، نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانية سجعان القزّي والكاتب جهاد الزين.تتوسّط طاولة مستديرة فارغة من الوسط القاعة المضاءة. جلس الضيفان في الصدر، بين يمين السفير عبد الله أبو حبيب ويسار الصحافي أنطوان سعد، وخلفهم صورة كبيرة لفارس، بربطة عنقٍ حمراء.

ما إن أنهى أبو حبيب تقديم ضيفيه، حتى سلّم راية الكلام لسعد، الذي أعلن أنه فوجئ حين علم بأن عدداً كبيراً من المثقفين لا يعرفون هذا التاريخ وهذه الذكرى. وربما كان من الممكن أن يفاجأ سعد أكثر، لو علم أن عدداً كبيراً من الإعلاميين الحاضرين في الندوة كانوا لا يعلمون أيضاً. وفي ما قاله سعد، إن «أصحاب هذا المشروع (دولة لبنان الكبير) أو من قيل إنه ولد بسببهم أو من أجلهم، وعلى رغم كل ما كيل لهم خلال العقود الماضية لم يستفيدوا منه إلا لماماً وأقل من غيرهم، لذلك كان بعضهم أول من فكّر بالعودة أو التخلي عنه وأكثرهم جدية في العمل على الخروج منه حفاظاً على قلق متنام لديهم على الحرية (من دون أن يقول من هم وكيف ومتى حاولوا الخروج منه)، ومن ناهضوه عقوداً فكانوا أكثر المستفيدين منه والمتمتعين بثماره ولذلك لم تصدر عنهم ورقة جدية أو موقف علني واحد مطالبة بالعودة عنه والخروج عليه (لم يذكر من هم أيضاً ولا كيف استفادوا منه).
وسريعاً، كسر القزي جليد اللقاء، عندما طلب من الزين أن يبدأ بالكلام لأنه أكبر سنّاً بنكتة خفيفة، فتبادل الثنائي الاتهامات عمّن وصل إلى الشيخوخة أولاً، فبدا الحضور متفاعلاً ومستعداً لبدء المداخلات، على الرغم من جدية الندوة.
«دولة لبنان الكبير بعد 93 عاماً» عنوان دسم في ظلّ ما يعصف بسوريا وما عصف بالعراق، ولأجله حضّر القزي أوراقاً عدّة. في بداية القراءة، وصف قزي الإعلان في 1 أيلول 1920، بـ«أهم حدث في تاريخ لبنان»، وأنه «أول ثورة في الشرق العربي». وقال القزي إنه «كان هناك قرار في عهد الانتداب لحماية الكيان، وإن كان الانتداب شكلاً من الاحتلال... ولبنان الكبير حمى أراضي عربية من الاحتلال الإسرائيلي لأنه ضمّها له»، ثمّ أكد أن «إعلان دولة لبنان الكبير كان نضالاً». وأضاف القزي مستعملاً بعضاً من مصطلحات الحرب الأهلية، حين قال «إن بعض اللبنانيين غطّوا الآخر»، من دون أن يذكر من هو الآخر، وفي مقطع ثانٍ أشار إلى أن لبنان «تعرّض للكثير من التدخلات الفلسطينية والسورية والإسرائيلية». وأضاف القزي أن «لبنان بوضعه الحالي هو تسوية سياسية لا خيار وطني... وهو قائم على سوء تفاهم مقصود». وأكد أن المطلوب «الولاء للبنان والاعتراف به وطناً نهائياً، وطن مبني على التعايش الإسلامي ـــ المسيحي»، وانتقد ما سماه «الدولة المذهب». وأشار إلى أن «فرصة استثناء لبنان من مشروع التغيير العاصف بالشرق الأوسط تتوقّف على وِحدة اللبنانيين التي لا تزال مُغيَّبة بين المسيحيين والمسلمين، وبين السنة والشيعة، ومسيحياً بين المسيحيين أنفسهم»، داعياً إلى «العمل على إصلاح الدولة قبل طرح مصير الكيان، وهذا الإصلاح يمرّ عبر الدولة الطائفية أو الدولة العلمانية، فالنموذج الطائفي يؤدي إلى دستورٍ فدراليّ أو كونفدراليّ يحفظ وحدة الأرض والميثاق والحدود الدولية، أما اختيار النموذج العلماني فيستلزم الولاءَ المطلَق للدولة اللبنانية، وإعلانَ الحيادِ الناشط... فالولاء للبنانَ والاعتراف به وطناً نهائياً يجب أن يقترِنا بتحييدِه عن المحاور والصراعات، إذ إن أساسات لبنان لا تتحمّل أيَّ انحياز وأيَّ تطرّف». وأعطى القزي مثلاً عن مدى تفكك اللبنانيين بالقول «إنه لا يمكن أن نشكّل وفداً لنذهب إلى المجتمع الدولي لنطالب بلبنان الجديد، لأن كلاً له رأيه».
من جهته، بدأ الزين حديثه المرتجل بالقول إنه لاحظ وجود ظاهرة ما يمكن تسميته بـ«انفصال سياحي» للمسيحيين و«غير سياحي» للسنة والشيعة، «إذ لم تنظم مهرجانات فنية في مدن كبيرة كصيدا وصور وطرابلس وبعلبك هذا الصيف». واعتبر أن السبب هو ما سماه «العقل السلفي» لدى السنّة والشيعة، وإلى «عدم وجود رؤية عند قوى السلطة لدى السنة والشيعة، ما يشل قدرات النخب المتنوعة في البيئتين السنية والشيعية».
وبنى الزين نقده للمسار التاريخي للكيان اللبناني على ما يحصل الآن على أرض سوريا، ومدى تأثير هذه الأحداث على مصير الكيان اللبناني. وأكد أن «لا وجود لأزمة بنيوية تهدد الكيان اللبناني كالتي نشهدها اليوم خلال الأزمة السورية، كما أن الأزمة أظهرت أن البيئتين السنية والشيعية عابرتان للحدود، لكن هناك مفارقة أن المسيحية اللبنانية تحولت هي الأخرى إلى عابرة للحدود للمرة الأولى في تاريخ لبنان الكبير». وقال إن «الكيانية اللبنانية بنت خطابها على الخوف من سوريا، أما الآن فسوريا مهددة بنيويّاً، وهنا أختلف مع القزّي». وأضاف أن «لا سقف ممكناً لسياسة لبنانية إيجابية أعلى من مشروع الاستقرار والسلم الأهلي، وإنه لا يمكن الوصول إلى هذا الهدف قبل انتهاء الصراع السوري، إذ لا معنى اليوم للبحث في أي صيغة بين اللبنانيين بسبب الأزمة البنيوية في سوريا التي تجعل مصيرها وبالتالي مصير لبنان معلقاً»، موضحاً أن «تيار المسيحية اللبنانية المشرقية سياسياً يولد اليوم بسبب المخاوف الكيانية، ولا يمكن فهم حركة البطريرك بشارة الراعي ومواقفه من الصراع والمدعومة من الفاتيكان إلا من هذه الزاوية».
ولفت الزين إلى أن «مستقبل المنطقة لا يعني بالضرورة كيانات منفصلة ومستقلة بسبب الضوابط الدولية والعربية للمشاريع الانفصالية المحلية... فالحالة السودانية سيئة، والحالة العراقية مقبولة». ولم يقل الزين ماذا لو سقطت الضوابط الدولية والعربية للمشاريع الانفصالية.