يبدو أن القاتل لم يكتف بقتل الأجساد. ربما يريد أن ينتقل إلى قتل النفوس. فجأة، ليل أول من أمس، راجت على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر الهواتف الخلوية، بيانات منسوبة إلى حزب الله. يقول أحدها: «نرجو من أهلنا الكرام المقيمين في الضاحية الأبيّة عدم الخروج من منازلهم إلا للضرورة، وذلك نهار الأحد المقبل حرصاً على سلامتكم». هناك قلق في الضاحية؟ بالتأكيد. ألسنة الناس تتكلم عن «قلق» في مقابل رفض «الخوف». أهل الضاحية من صنف البشر، يقلقون، والواضح أنهم يصرّون على إنسانيتهم، إذ «ليس بيننا من يلتهم القلوب ويأكل لحم البشر»، كما يقول شاب كان يتجوّل أمس في مكان الانفجار في الرويس.
لكن، في المقابل، نجح التحذير الكاذب في ركوب موجة القلق، بعد تناقله بين ناس الضاحية بواسطة الرسائل الإلكترونية. يمكن التماس العذر لهؤلاء، أو التفهم، لقبولهم تلك الكلمات على أنها حقيقية، لذلك كان لا بد لحزب الله من أن يصدر، بعد منتصف الليل، بياناً حقيقياً هذه المرة، ينفي فيه صحة الشائعات، ويؤكد عدم صدور أي بيان رسمي عن الحزب بهذا المعنى. لم يكد يصدر هذا البيان، حتى كانت الهواتف تتناقل بياناً، مفبركاً، من نوع آخر. هذه المرة جاء موقعاً باسم «مجلس شورى حزب الله»! تضمن تخويفاً إضافياً. يبدو أن صاحب الفكرة، كائناً من كان، لم يتابع أخبار حزب الله وبياناته من زمن بعيد. «شورى حزب الله»؟ وأن «المُفبرِك» لا يزال يعيش في ثمانينيات القرن الماضي. على كل حال، لم تعد تُحصر الشائعات التي انتشرت خلال الأيام الثلاثة الماضية، إذ كانت تأتي بمعدل واحدة كل ساعة، أكثرها يتحدّث عن سيارة مفخخة هنا أو عبوة هناك. كثيرون صدقوها. من الشائعات أيضاً بيان يتضمن لائحة بأرقام لوحات سيارات مشبوهة، مع نوعها ولونها، من دون ذكر المصدر. أيضاً، راجت رسائل تدعو إلى عدم الاتصال على الأرقام الموضوعة على بعض السيارات المعروضة للبيع، لأنه، بمجرد الاتصال، سيحصل الانفجار! وقس على ذلك من خصب الخيال، الذي تارة يكون مصدره أجهزة استخبارات، كما يقال، وتارة يكون من أهل المنطقة، المزايدين في حرصهم، فيتحولون بقلقهم إلى موظفين لدى تلك الأجهزة من دون علمهم.
فعلت الشائعات فعلها. الضاحية المكتظة فوق العادة لم تكن شوارعها كما العادة، أمس، إذ تضاءلت حركة السيارات. لا داعي للمبالغة، يمكن القول إن الحركة هناك كانت مثل الحركة في العاصمة خلال الأيام العادية. الشوارع لم تخل من الناس، وكذلك المطاعم والمحال التجارية والمقاهي. صاحب مقهى شعبي، عند جادة هادي نصر الله، يرى أن الاكتظاظ الظاهري قد تراجع بنسبة الثلث، لكن «لا تنس أن الثلاثة أرباع ها هم أمامك». هؤلاء من الذين «يرفضون الاستسلام لفكرة الخوف، انظر إليهم، عددهم تقريباً في المقهى نحو 40 شخصاً... لدينا حذر صحيح، ولكن لن نسمح للخوف بأن يستقر بيننا». يراهن صاحب المقهى على هؤلاء، ثلاثة أرباع الناس، على الأربعين زبوناً الذين يبقون للساعة الواحدة ليلاً، بعد ليلة واحدة من الانفجار! «دلني على مكان في العالم فيه هذا الصنف من الناس»؟ يسأل متحديّاً. المكان لا يبعد سوى مئات الأمتار عن مكان الانفجار في الرويس.

إجراءات المربّعات

قبل انفجار الرويس، وقبله انفجار بئر العبد، بدأ الناس في الضاحية يلحظون «الحركة الأمنية» لحزب الله بوضوح. كلاب حراسة وسيارات مركونة على مداخل الطرقات، ولكن، إلى ما قبل الانفجار الأول، كان هذا الظهور لا يزال ضمن المألوف. بعد انفجار الرويس، تغيّرت الأمور. حزب الله «لن ينتظر من أحد أن يبادر إلى حفظ دماء أهل الضاحية. هذا من ضمن مسؤولياته ونحن نريد ذلك، كنا سنستغرب لو لم يفعل... كلنا ثقة به وأهلاً بالمربعات الأمنية». بهذه الكلمات يرد أحد الداخلين إلى الضاحية، ليلاً، عند أحد مداخل منطقة حارة حريك، عندما تسأله عن رأيه بالإجراءات الجديدة. نزل من سيارته، وفيها زوجته وأولاده، وراح يُقبّل رؤوس عناصر الحزب الذين يقومون بالإجراءات الأمنية.
سعى الحزب إلى أن يكون العناصر الواقفون عند تلك الحواجز من «اللائقين أخلاقياً». المسألة فيها تعامل مع الناس، مع كل الناس، من مختلف التوجهات والأمزجة. لكن الخطأ وارد دائماً. سُجل في بعض المناطق حصول مناوشات مع بعض الأشخاص، ربما أكثرهم من غير المقيمين في المنطقة، فكانوا يمتنعون عن الامتثال للإجراءات. التوتر سيد الموقف بعد الانفجار، وهذا التوتر لا يستثني عناصر الحزب، الذين كان لدى بعضهم نبرة أعلى مع عدم الممتثلين. لكن «لم يُسجل ضربة كف واحدة، على الإطلاق، فالناس هؤلاء هم أهلنا ونحن منهم وإليهم، ولا شيء يحركنا ويؤرقنا سوى الخشية عليهم». ليس لدى الشاب الحزبي، الذي يلف زنده بقماشة فوسفورية لتمييزه، سوى هذه الكلمات لوصف طبيعة عمله. يُدرك المعنيون هناك أن أهل الضاحية تحمّلوا كثيراً، خلال السنوات الأخيرة، منذ ما قبل حرب تموز وما بعدها، إلى حد وصف صبرهم بـ«الأسطوري». يدركون أن هؤلاء يستحقون أفضل معاملة، ولهذا فإن حصل أي لغط، أو سوء تصرّف، فإن أبوابهم مفتوحة لتلقي الشكاوى. بالتأكيد، ثمة من سيخرج اليوم ليسأل «أين الدولة؟». لكن في المقابل، وبالتأكيد أيضاً، سيكون هذا من أكثر الأسئلة سماجة هذه الأيام في لبنان، كل لبنان.