في آذار عام 1992، بدأ البطريرك الماروني الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير حملته ضد اجراء الانتخابات «فيما تنتشر جيوش غير لبنانية على كامل الاراضي اللبنانية». رأى صفير، آنذاك، ان الظروف السياسية والاجتماعية والأمنية غير ملائمة لاجراء انتخابات، فالمهجرون لم يعودوا الى منازلهم والمغتربون لا يستطيعون العودة الى لبنان، ولم يكن قد مضى على تعيين اربعين نائبا تطبيقا للطائف وقت قصير.
خاض البطريرك الماروني، حينها، معركة مصيرية، بعدما بدا له ان الانتخابات ستتم بناء على امر عمليات دمشق التي افادت من اللحظة الدولية المناسبة ــــ بعدما وقفت الى جانب الدول الغربية في معركة تحرير الكويت ــــ للاطباق على ما تبقى من النظام اللبناني واتفاق الطائف. وتأكد له ان حكومة الرئيس رشيد الصلح جادة في اقرار قانون على اساس اربع محافظات، مع تقسيم جبل لبنان اقضية، وستزيد عدد النواب الى 128 نائباً. بقي صفير ستة اشهر، بين اذار وآب تاريخ اجراء الانتخابات، ثابتاً من دون مهادنة في رفض اجراء الانتخابات واصفاً اياها بـ «التعيينات» ومعتبراً أنها تهدد لبنان بالانقسام.
يومها، كان العميد ريمون اده والرئيس امين الجميل والعماد ميشال عون في باريس، والدكتور سمير جعجع والنواب المسيحيون الذي اقروا الطائف في بيروت.
تفاوتت المواقف الاولية من المشاركة في الانتخابات، اذ وقف اده اولاً مع اجرائها والمشاركة فيها، وتدرّج موقفه الى تأييد مع صفير رفضاً لها. وعاد الجميل الى بيروت، بعد اعوام الغربة الباريسية، ليخوض مع صفير والقوات والاحرار والكتلة والتيار العوني معركة رفض الانتخابات، بعدما أيّد عون وجعجع المقاطعة. اما النواب المعيّنون والممدّد لهم منذ عام 1975 فتفاوتت مواقفهم بين مؤيد ومعارض. لكن المؤيدين للانتخابات من المسيحيين كانوا اقلية في خضم اكثرية مسيحية ساحقة معارضة تجلت بالمقاطعة الكبيرة للاقتراع، وكذلك باضطرار الوزير فارس بويز الى الاستقالة من الحكومة وسحب ترشيحه ومن معه في دائرة كسروان، الامر الذي ارجأ انتخابات هذه الدائرة الى 11 تشرين الاول من العام نفسه.
تعيد قراءة تلك المرحلة، في ضوء ما يحصل اليوم من رفض للمشروع الارثوذكسي الذي توافق عليه المسيحيون وأيّده حزب الله وأمل، احياء كثير من الهواجس والاسئلة.
في عام 1992 أُجريت الانتخابات النيابية، ولم تسأل الطبقة السياسية آنذاك، ولا الطائفة السنية او الشيعية او الدرزية، عن موقف صفير، ولا عن العصب المسيحي المتمثل ببكركي وحزب الكتائب والقوات والعونيين والكتلة الوطنية والاحرار، الرافضين جميعاً لقانون الانتخابات وللعملية الانتخابية برمّتها. نزل النواب الى المجلس النيابي واقترعوا على قميص المسيحيين، من دون ان يخطر في بالهم ميثاق عام 1943 ولا غطاء صفير وجعجع لاتفاق الطائف الموقّع حديثاًَ.
لم يسأل ممثلو الطوائف الاخرى، عام 1992، عن العيش المشترك، او الميثاقية التي تكثر اليوم في تصريحات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وتيار المستقبل والرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط وغيرهم من القوى السياسية الرافضة للمشروع الارثوذكسي بحجة انه يضرب «العيش المشترك والميثاقية».
حينها، رميت ما كانت تسمى «المنطقة الشرقية» خارج لعبة النظام، بحجة الارادة السورية. اما اليوم، فرفض الارثوذكسي الذي توافقت عليه «المنطقة الشرقية»، اذا صح التعبير، نابع من ان الطبقة السياسية التي افرزتها انتخابات عام 1992 وشكّلت النظام الذي لا يزال يتمسك بنتائج الارادة السورية، تريد الحفاظ على مكتسباتها.
بعد تلك الانتخابات، جاء رفيق الحريري رئيساً للحكومة، وانتخب نبيه بري رئيساً للمجلس النيابي وتحوّل جنبلاط شريكا في الحكم ، ولم تكن الترويكا التي شارك فيها الرئيس الياس الهراوي الا لتمعن في ابعاد المسيحيين عن النظام. وبقي نظام الترويكا فاعلاً في تكريس النتائج السياسية لمفاعيل انتخابات 1992، والتي تجلت لاحقاً في الممارسات المتلاحقة لاخراج المسيحيين من المعادلة عبر ادخال جعجع الى السجن، والتهديد بأن العشب سينبت على درج بكركي، وصولا الى 7 آب.
لم يقلب استحقاق عام 2005 المعادلة. حاول ممثلو النظام، المكرّس بفعل الوصاية السورية، اجتراح التحالف الرباعي لتثبيت ديمومة هذا النظام والحفاظ على مكتسباته. ولعل حزب الله، وحده، حاول الخروج من هذا التحالف بعد 7 ايار، واليوم بوقوفه الى جانب المشروع الارثوذكسي.
بالامس، جدّد القادة المسيحيون تمسكهم بالمشروع الارثوذكسي، ولو عن خطأ، لا يوافقهم عليه مسيحيون آخرون. وقد لا توازي غلطة الاجماع المسيحي على الارثوذكسي، الا الاجماع على رفضه، من جانب الذين يحاولون بكل قواهم الحفاظ على مكتسبات قدّمها لهم على طبق من فضة النظام السوري الذي يقفون اليوم ضده، ولو زجّوا بالبلد في الفراغ.
في هذه المعمعة يحاول رئيس الجمهورية التمايز عن الهراوي بلعب دور توافقي، فلا ينجح. حتى الرئيس اميل لحود، حاول القيام بخطوة ولو متأخرة بتوجيه رسالة الى المجلس النيابي من اجل اقرار قانون يرضي المسيحيين.
ليس محتماً ان يقر الارثوذكسي، إلا أن الطوائف الاخرى اعترفت، بعد حملة عون وجعجع والجميل، بحق المسيحيين في المناصفة. لكن يبقى ان ما يميز مرحلة عام 1992 عن 2013، ان المسيحيين يحاولون اليوم تقديم بدائل، ويفتحون الطريق امام مشاريع قوانين اخرى، ولا يزالون يدعون الى توافق حول مشروع يؤمّن المناصفة، ولا يطالبون بحصة الطوائف الاخرى. اما في الضفة المقابلة، فهناك من يستمر برفض تقديم اي مشروع بديل ما عدا القانون الذي يؤمّن له حصته وحصة المسيحيين معاً، تماما كما فعل طوال واحد وعشرين عاماً. وهناك من لا يزال يحلم بالمكتسبات التي وفّرتها له الوصاية السورية على انها حقه الطبيعي، ولو خرج السوريون من لبنان وعاداهم قولاً وفعلاً. وهناك، بعد كل ما سبق، من لا يزال يرمي المسيحيين بتهمة ضرب الميثاقية والعيش المشترك.