«الونش» الضخم والرافعة التي اعتلاها بعض العمال، توخياً للوصول الى أعلى العمارة عند مدخل طرابلس، لم يكونا لإنقاذ أشخاص من حريق في طوابق عليا. وقفت للحظة بعد نزولي من الفان، أنظر الى الاعلى لفهم ماذا يصنعون، ليتبين أن الأمر لا يعدو إعادة نصب لوحة عملاقة للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، كانت قد سقطت ربما بسبب الرياح في العاصفة الأخيرة. تنتشر صور الموظف الأمني الكبير الذي تمنع القوانين العسكرية، وقرار إضافي أصدره هو شخصياً، أن تعلق صوره. لكنه، ولسبب ما، يتقاعس عن إزالة هذه المخالفات برغم السلطة التي بيده...
أهلاً بكم في مدينة المخالفات من كل الانواع والأشكال. طرابلس المتروكة لمصير تتصارع القوى على رسمه، تبدو، عكس الربيع الذي يتخلل شتاءها، حانقة وفي حلقها غصّة. «أصبح ريفي مقدساً متل حافظ الاسد قبل ما يموت. كيف كنا نخاف نحكي عنه؟» يقول أحد الأصدقاء الطرابلسيين القدامى المتحول الى التصوف، مردفاً «يعني الناس لما بدهم يحكوا عنو شي شغلة بيوطّوا صوتن... تصوري!». يستطرد الشاب الذي كان قريباً من الشهيد خليل عكاوي: «الله يرحمك يا أبو عربي... صارت الطائفة السنيّة مقدسة».
كهرباء خفيفة في الأجواء، ووجوه عابسة تجري خلف رزق ضئيل. «كباية العصير بـ250 ليرة»! أين تجد بعد كوباً من العصير بهذا الثمن؟ الرزق في طرابلس لم يعد يأتي من المحال المفتوحة الأبواب والخالية من الزبائن رغم ازدحام الشوارع. بسطات لسوريين نازحين تنتشر في شارع عزمي وساحة التل وأوتوستراد العبدة، فضلاً عن السيارات والفانات العمومية التي يسترزقون بها. ضيق الرزق بسبب الاوضاع الامنية وتكاثر النازحين بدأ يطل تململاً بين أهل البلد من الوافدين الجدد.
معرض الجامعات التركية يذكرك بالجهد الذي تبذله تركيا لاستتباع المنطقة معنوياً. وهو اتجاه يبدو أنه يتواصل مع رغبات محلية ما، غير مصوغة بعد بشكل نهائي. رغبة الفاشل في بناء دولة بالحل الأسهل: الانتماء الى مكان آخر: بالهجرة، أو... بالانفصال. أعلام الثورة السورية ترتفع على بعض المباني الى جانب رايات سوداء سلفية، كأن المدينة عادت لتصبح طرابلس الشام أكثر مما هي العاصمة الثانية للبنان.
أينما ذهبت، تسمع عن «عركة كبيرة قريبة». في المقهى، في البيوت، في سوق نهر أبو علي للبالات، وحتى في سوق الخضر.
في منطقة «الضم والفرز» الأشبه بغابة من العمارات التي لا يزال أغلبها فارغاً، نقصد مقهى «صح صح» حيث قيل إن قنبلة رميت هناك مساء أمس. الرجل في الكشك الملاصق للمقهى ينفي أن تكون أي قنبلة قد رميت هنا. «سمعت عالتلفزيون، بس صرنا نضحك لأنو كنا هون وما في شي. شو بيعرفني هالإعلام كيف بيشتغل!». الناس يملأون المقاهي في هذه المنطقة البعيدة نسبياً عن أماكن التوتر المعتادة. ولكن، يدعوني أحد الاصدقاء الى عدم التفاؤل: «بعد ساعة ما بتلاقي حدا بالشارع» يقول. كانت الساعة الثامنة مساءً.
في جبل محسن، أيضاً، الناس على أهبة الاستعداد. مستديرة أبو علي التي شهدت قطعاً للطرقات من أجل «مازوت سوريا» لا يمكن اجتيازها من دون الاستفسار مسبقاً إن كانت سالكة وآمنة. مع ذلك، لا تأمن المفاجآت خاصة في الليل.
في السرفيس، على خط الرفاعية ــــ أبو سمرا، يقول السائق الشاب إنه كان خلف الدراجة النارية التي ألقت بالقنبلة هنا على طلعة الرفاعية قبل يومين. «كنت وراهم بسيارتين وشفتهم: موتير (دراجة نارية) عليه شخصين حاطين على راسن متخفيين. الحمدلله ما صرلنا شي. بس واضح في عركة كبيرة جايي. يعني لشو يرموا هالقنابل على العالم هون؟ بدن يسموا البلد بس».
التوتر الليلي صار موضة دارجة في طرابلس. «العاشرة ليل أمس (الخميس الماضي) كان هناك ظهور مسلح في الزاهرية والقبة وأبو سمرا. اليوم صباحاً (الجمعة) وجدوا قنبلتين جاهزتين للتفجير في سوق القمح (لجهة جبل محسن) لو انفجرت؟ كانت بلشت المعركة دغري» يقول أحد الشبان.
«فايت ع طرابلس كتير من برّه. غربتلية (غرباء). يعني شي جيش حر شي من جماعات الصومال شي من السلفيين التكفيريين، طبعاً هيدا بعد ما انحشروا بمعركة حمص». يقول الأستاذ الطرابلسي العتيق الذي يسكن في باب التبانة، ويستطرد «طبعاً هدول فوّتوهم الأتراك على حمص وممنوعة الرجعة ع تركيا: فوتوا تتموتوا. ما سمعتي بالطائرات التركية اللي عم تروح عاليمن فاضية وترجع مليانة؟ تبين إنو العائلة اليمنية الفقيرة عم تبيع بعشرة آلاف دولار ابنها كجهادي. أصلا هيك صرّح وزير يمني، ما سمعتيه؟». ثم يستطرد وهو يتنهد: «أنا شايف في معركة بطرابلس. هدول الغربتلية انكعروا بحمص إجوا لهون. طبعاً طالما عم يمدوهم بالمصاري ماشي الحال، بس إذا قطعوهم شو بيعملوا؟ بدن يشلحوا الناس: يا قاتل يا مقتول. كيف صار بجماعة فتح الاسلام؟ نفس السيناريو». لا بل إنه يتوقع «إنو ينطلب حتى من الجيش السوري النظامي أن ينظف المنطقة»! ومن سيطلب ذلك؟ يقول: «الاميركان رح يطلبوا هذا التدخل بنفسهم، إذا هالغربتلية اشتبكوا مع الجيش وما قدرلن. هناك نص في المعاهدات الدولية يحق للدول وفقه أن تدخل 30 كلم في حدود الدولة المجاورة لتعمل عملية وتطلع. تركيا عملت هيك بالعراق. هناك أيضاً إمكانية تبلش العركة بطرابلس كلاسيكياً: يعني جبل محسن ــــ باب التبانة، وممكن علقة سنيّة ــــ سنيّة، يعني تصفية لجماعة (الشيخ بلال) شعبان و(الشيخ هاشم) منقارة. أصلاً صار شي من هالنوع بالعلقة الاخيرة. واللي خلا الوضع ما يتفاقم إنهم سلّموا مراكزهم للجيش، كمان قصة (الوزير فيصل) كرامي. شو بدي قلك؟ وضع مقرف». وماذا عن الناس؟ يقول مبتسماً بمرارة: «اللي عم نشوفوا هلق نتيجة العقل الفقهي السياسي اللي ركب من 1400 سنة. عقل سياسي متخلّف: الفكر الإلغائي: يعني واحد بيلغي المجموع وبيمشيهن وراه. والتريو الحاكم اللي عم يلعب لعبة الاسلحة. بقصد (النواب معين) المرعبي و(خالد) ضاهر و(محمد) كبارة. بس برأيي المجموعات المسلحة رح تتخطاهم. وإذا كبر عدد المقاتلين الأغراب اللي مستعدين يموتوا، رح يصيروا أساس باللعبة، ويتكرر نفس سيناريو فتح الاسلام».
وهل هذا هو مجمل الجو؟ يقول «هناك سيناريو إضافي: «في ناس عم تتأمل ينهار بشار وتصبح طرابلس جزءاً من إمارة حمص. الأثرياء الجدد عم يفكروا بالموضوع كتير من الناحية المادية. يعني حمص قد لبنان ع خمس مرات، فيها إمكانات زراعية ضخمة، وطرابلس كانت محطة تواصل عبر مرفئها، وهم يتمنون إعادة هذا الدور. يعني قبل تركيبة لبنان كانت طرابلس عايشة على حمص. حتى إن هناك طرابلسيين قاوموا فرض الجنسية اللبنانية عليهم، وعكار نفس الشي. يعني هالأثرياء بيحسبوها إنهم بيكسبوا من هالشي. أصلاً ليس هناك انتماء إلى البلد. هناك فراغ في الانتماء. من يملؤه؟».
ليل طرابلس ينام باكراً... ولا ينام. «الحبحبجية بيسرحوا بالليل. شو بيخطر ببالن بيعملوا». ومن أين يخرجون؟ «من الأسواق الفقيرة، من التبانة، من جبل محسن، من القبة، من كل هذه المناطق. لبنانيون طبعاً لا سوريون. هناك انتشار كبير لتعاطي الحبوب التي هي مخدرات الفقراء. هناك شمّ للصمغ وأشياء أخرى. ما حدا بيطلع بالليل إلا إذا مضطر».
«في عركة قوية جايي»، يقول شاب سلفي «مطّلع» على الأوضاع في الداخل الطرابلسي المتورم. ويضيف: «الوضع اللي عم يصير بالليل عم يمهد لمعركة لن ترحم كبيراً ولا صغيراً». المعنى؟ «المعنى ما بيعود في مناطق نائية عن المعارك. إنو المناطق الغنية متل المناطق الفقيرة». وهذا وفق أي من السيناريوات المتداولة؟ يجيب: «مبارح رفعت عيد حكي كلام ما كان لازم يحكيه: عم يقول إنو التيار السلفي بدو يعمل إمارة بالشمال. ما في إمارة إسلامية بالشمال، لأنو كلو فايت ببعضو. بس حكاية الليل حكاية جديدة! هيدي مسؤولية الدولة: كل شي عم يتفجر بالبلد بعلم الأجهزة، بهدف تشريد الجيش حتى يهجّ من المناطق الساخنة. طيب شوفي مثلاً: قصة عرسال كبيرة بس ضربها الجيش لأنو فوق كقوة أهمّ من هون. فوق في تهريب سلاح أكتر من هون وتمرير مقاتلين. بدو يصير صراع سنّي ــــ سنّي بالبلد. منرجع لأول الحديث: كل واحد فاتح ع حسابو». وهم؟ جماعة الشيخ سالم الرافعي؟ يجيب «الشيخ سالم منو فوضوي، كل همو مصلحة البلد. بس في ناس ما بتريد هالدور اللي عم يلعبو. في ناس عم تطلب التحرك ضمن البلد (طرابلس)، بس هوي قال هيك عم نضّر أهلنا، لذلك مننزل على بيروت الاحد الجايي (أمس) تحت شعار: رفع الظلم عن مساجين رومية، كمان اليوم المعلومات بتقول إنو الشيخ حسام (الصباغ) والشيخ سالم بدن يعملوا إمارة إسلامية بالشمال! خطأ لأنو: كيف بدك تعمل إمارة على 5 آلاف زلمي؟ ما بتزبط. وعندك شركاء بالبلد مسيحيين. هيدا تهويل حتى يعلق الجيش مع السلفيين. وعلى قائد الجيش أخذ هذا الكلام في الاعتبار». وهل هناك تواصل مع الجيش؟ «أكيد، عبر لجنة الشيخ سالم». وماذا عن الصباغ؟ واجتماع السلفيين منذ فترة بسيطة في الشمال لمبايعته؟ يجيب: «موضوعه مضخّم كتير. اذهبي وقابليه. هو في جامع حربا كل ليلة الساعة الثامنة والنصف مساءً. عم يحاولوا يحطّوه بأمر أكبر منّو بكتير: إنو هوي قاعدة. هذه بالونات إعلامية لتخويف العالم والطرف الآخر، بينما الشيخ حسام شخص بسيط وما عندو كبرة على حدا». ولكن من هو حتى تمدح تواضعه؟ يقول: «أهميته أنه عندما يهجم الجبل بقوة عسكرية على باب التبانة، بيوقفهم عند حدّهم وبيطلب مساعدة الجيش. هوي واحد جبار بس ما بيريد طائفتو تنذل عن طريق واحد متل هيدا (عيد)»! ثم يقول «كل ما نخافه هو هذا الاستدراج لمعركة بين الجيش والسلفيين بالبلد .لأنو كيف صار بالبارد؟ نفس الشي رح يصير بالبلد. بس هون عم نحكي عن طرابلس».
نسأله إن كان ممكناً أن يتكرر سيناريو القدور في السبعينيات عندما تحصن هذا الفار من العدالة أيامها في الاسواق الداخلية القديمة لطرابلس وشهد انتزاعه من هناك حرباً صغيرة دمرت المكان. يجيب «مع حفظ الفارق بين القدور والقيادات اللي عنا. في شي عم ينطبخ. شي خطير». وهل للقيادات العكارية يد في هذه الطبخة كالشيخ خالد الضاهر؟ يقول: «الشيخ خالد انتهى». كيف؟! يجيب: «قصة اغتيال الضابط (بيار) بشعلاني والرتيب (خالد) زهرمان قضت عليه. والحكي اللي حكاه ع التلفزيون ما بينحكى. عكار هي إم وبي الجيش وراح إلها شهداء كتير. طيب روح جيب حق أهل عكار من أهل عرسال! من رئيس بلدية عرسال تحديداً. صحيح كلنا طائفة واحدة، بس ما كل ما شفنا عسكري من عنا بيقتلوه حتى يستغلوها إعلامياً». أُبدي تعجبي فيجيب مؤكداً «طيب الانتخابات جايي وكل إنسان بدو يتحاسب بالصندوق. بعكار الأمور تغيرت كتير لسببين: كذب تيار المستقبل وخداعهم بكل الامور، طلعوا فاشوش، ومن محل تاني منلاقي إنو المال اللي عم يتوزع للنازحين السوريين وكأنهم أهمّ من أهل عكار. ليه ما بتعطوا لأهل عكار اللي بينزلوا بالساحات ساعة اللي بدكن؟ ولا هدول كخّة لأنو هدوليك عم يجيكم مصاري على ضهرن من برا؟ هل يجوز إنو الست بعكار تنزل تشحد بالشارع لتأمّن الحكمة لأولادها؟ وهم عم يفتحوا مستشفيات من بابها لجرحى الحر؟». صحيح إذاً أن هذا الجو! يستطرد «وقال مبارح هيدا (الناطق باسم) الجيش الحر هدد حزب الله. إيه روح. قبل ما تهدد عنا بلبنان روح قلّط ونظف زبالتك عندك هونيك. ما إنتو بدكن تعملوا فتنة سنيّة ــــ شيعية؟ وعم تخطفوا لبنانيي؟ ولّا آخذين الأوكي من برا لتشعلوها؟ روح شوف تركيا شو عملت برياض الأسعد تبعكن؟ ليه عيّنوك محلو؟ ولّا عندك أجندة استخبارات تركية تنفذها بعد ما رفضها الأسعد!».
ثم يقول الخطاب الغريب الآتي: «نقول لقائد الجيش هيدا رفعت عيد واحد مأجور من برا. بيقول كثّر خير الجيش، بس لازم الجيش ينتبه منو! نحنا مش ضد العلويين، بس هو وأمثالو بوتروا الوضع بالمدينة. ساعة بيقول سلفي، ساعة قاعدة، اللي ما بدو اتفاق بالبلد هوي تيار المستقبل. نصرالله أنا بسمعو: خطابه متوازن ولا يريد فتنة. ونحنا كمان منقللو ما بدنا فتنة، بس ما بدنا نكون مضطهدين. إذا بدك فعلاً شراكة بالبلد، اطلع واعلن بخطاب: لازم ننصف أهل السنّة بهالدولة. يا سيد ما بدنا فتنة بس كمان ما بدنا نقتل بعضنا منشان السعودية وإيران. إسرائيل عدوتنا الوحيدة، ولذلك منتمنى عليك تجتمع بقيادات حقيقية لأهل السنّة كالتيار السلفي، وتتفقوا على أمور بتخص الشعب، متل الوضع المعيشي والمساجين». ثم قال «يا سيد إيد واحدة ما بتزقف بس فيها تفجّر. وبس».