من الصيفي إلى بكركي فطرابلس، يبدو رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، وكأنه يحاور عن بعد وبالواسطة والمداورة والتورية، رجلين اثنين: ميشال عون وسمير جعجع. فهو يدرك أن مشكلته هنا، ولعبته وتوازنه ومستقبله هنا. المشهد معروف في لبنان. لن يتغير. توازن بين قوى وجماعات وطوائف. لا أحد يلغي أحداً ولا أحد يقدر على تفرد أو استفراد. وفي هذا المشهد مشكلة الحريري مع حزب الله بديهية. لن يحلها له غازي يوسف في حضوره ولا عقاب صقر في غيابه. كما لن يحلها ميدان سوري ولا ديوان خارجي. فيما وليد جنبلاط قد تخلى عن موقعه الترجيحي ودوره التفضيلي، لسوء حظ الجميع، منذ انكفأ عن التغريد خارج أسراب التوتير، ولجأ إلى التغريد سراباً على تويتر... هكذا لم يعد أمام الحريري إلا الساحة المسيحية ملعباً ومسرحاً وهامشاً. وهي الساحة التي يمثلها عون وجعجع.
في كل كلام قاله منذ في 14 شباط، كان "العائد" – على طريقة ليو في أوسكاره المرجح – يحاكي عون وجعجع لا سواهما. رغم سلبية هنا، وظاهر عدائية هناك، وهفوة هنالك، كان واضحاً أن الرجل يريد استدراجهما إلى الكلام. حتى أنه أمس الأول، حبكت معه الطرفة، وهو يهاتف جعجع. سأله رئيس حزب القوات إذا كان قد اتصل بعون معايداً، كما فعل العام الماضي. فأجابه الحريري: هذا العام المعايدة عليك. ضحك جعجع، كما قيل، ورد أنه مستعد، شرط أن يكون قالب الحلوى على عاتق الحريري! ليست الواقعة مجرد هزل بين القادة الثلاثة. ذلك أن الكل يعرف ويدرك، أن أكثر الأمور جدية في الحياة عموماً والسياسة خصوصاً، تمرر عبر طرفة. أو تصل رسائلها بواسطة مزحة. ولأن الأمر كذلك، نقل جعجع القصة كاملة إلى عون. وفهم الاثنان أن الحريري على خطهما، لكن دونه عقبات وعراقيل وعقد ومطبات.
أمس ظهر بعض تلك المطبات. الموقف في الرياض متصلب مطلق حيال إيران. وبيروت عقدة وسط حبل التجاذب والشد بينهما. لكن لبنان في موقع آخر. وواجب الحريري، لا بل مصلحته الوجودية ومصلحة وجود لبنان، أن يشرح ويفسر ويقنع السعوديين بذلك. خصوصاً بعدما صار التوافق المسيحي قائماً منجزاً، عند نسبة، يبدو رقمها مصادفة تاريخية غريبة، هي نسبة 86 بالمئة منهم.
ذلك أن الرقم نفسه، مع كسور يمكن حذفها وعدم احتسابها في أرقام النسبية، هو نسبة المسيحيين الذي قاطعوا أول مسرحية انتخابات نيابية في زمن الوصاية السورية، سنة 1992. تلك المسرحية التي كتب عنها الكثير. وتحديداً عن أدوار الجميع فيها. ومنها دور رفيق الحريري نفسه، كما أسهب الراحل جورج سعادة، رئيس حزب الكتائب يومها. 86 بالمئة من مسيحيي لبنان، رفضوا المشاركة في تلك الخطوة التي فرضتها تركيبة الوصاية. يومها ضحك بعض الأميركيين على بكركي. شجعوها ومن معها على الرفض. قبل أن يحشدوا نصاباً دبلوماسياً كاملاً للاحتفال بالمجلس الجديد. ويومها، اعتقد البعض في بيروت كما دمشق، أن الفرصة باتت سانحة لاستثمار مقاطعة المسيحيين بتلك النسبة الساحقة بالذات. خرجوا بمخطط عبقري لاستثمار مثلث الأضلع: نثبت دعائم حكم الوصاية، من دون اعتراض صفير وعون وجعجع ومن معهم أولاً. ونخرج من المقابر المكلسة ثانياً، جثثاً بديلة ننصبها طبقة سياسية جديدة. ونقدم للسعوديين ثمناً، هو بالفعل من جيب الرياض نفسها، بحيث نأتي بأسطورة رفيق الحريري رئيساً للحكومة، لتشعر المملكة بأنها شريكة في الوصاية، وليخدم دمشق في استيعابها للرفض المسيحي... ومشى رفيق الحريري في التركيبة – اللعبة. عن اقتناع أو عن اضطرار. حتى صار أسيرها. تقضمه تدريجياً. تأكل من رصيده الكبير. تحجّمه وتروضّه وتؤنبّه. تعلبّه وتلعب به وتتلاعب بركائز وطن ودولة. حاول الحريري مراراً الاعتراض. اعتكف. وحرد. ورفض واستقال وابتعد وعاد ولم يقدر على كسرها. لمجرد أن ركيزة أساسية من توازن الوطن، كانت غائبة، وبنسبة 86 بالمئة. طيلة أعوام حكمه في ظل الوصاية، حاول رفيق الحريري تصحيح خطأ الـ 86 بالمئة. جرب مع جنبلاط مرات. فلم يكف. حتى كاد يورطه أكثر من ورطاته. حاول مع بكركي بعد نداء أيلول سنة 2000. لكن الزمن كان قد تغير. في الأسابيع الأخيرة من حياة نضاله، يروي "الشاهد" مصطفى ناصر وقائع مذهلة عن محاولته التوازنية الميثاقية الأخيرة مع السيد حسن نصرالله. لكن لسوء حظه وحظ اللبنانيين، كان الأوان قد فات. سقط شهيد اختلال ميثاقي، راكم اختلالاً في كل المنطقة وكل المنطق. لمجرد أن 86 بالمئة من شراكة وطنية أصيلة كانت قد ضربت قبل دزينة من الأعوام.
لا يمكن لسعد الحريري أن يكرر الخطأ نفسه ولا أن يعيد الخطيئة ذاتها. هو من أعلن في مبادرته الرئاسية قبل عامين، أنه أول من اعتبر واستخلص وتعلم من حقبة الوصاية السوداء. إذ ليس الوطن مشروع ترحيل نفايات يبرم بالتزوير. ولا هو مكب للعوادم على وهم التدوير. يدرك الحريري الابن ذلك جيداً. مهما كانت مضامين الخطب المكتوبة، أو المرتجلة خطياً. ففي النهاية، وصلت معايدة الحريري إلى عون، ولو بالواسطة. يبقى عليه أن يوصل العيد إلى 86 بالمئة من شركائه في الوطن، وإلى كل اللبنانيين.