وتأتي الاتهامات التي يتعرّض لها المدعي العام في توقيت لافت للأسباب الآتية:
أولاً، في أيار الفائت، طلب كريم خان من هيئة القضاة إصدار مذكرات توقيف دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه يوآف غالانت، وثلاثة من قادة حركة «حماس» (اغتالهم الإسرائيليون لاحقاً)، بسبب توفّر قرائن على ضلوعهم في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة المحاصر. ورفضت الحكومة الإسرائيلية هذا الإجراء، ودانت خان بسبب إقدامه على «مساواة نتنياهو وغالانت بقادة حماس». كما شنت حكومة العدوّ هجوماً على خان، ووصف وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، خطوته بأنها «هجوم مباشر على ضحايا هجمات 7 أكتوبر» و»وصمة تاريخية ستبقى في الذاكرة إلى الأبد». لكن المدعي العام لم يرتدع، بل أكد لصحيفة «صنداي تايمز» البريطانية أن إسرائيل تفرض عقاباً جماعياً على الفلسطينيين في غزة، وأن «لا أحد لديه رخصة لارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية». وشدّد على أنه «إذا لم تتخذ الدول خطوات في حال صدور مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، فستكون لذلك آثار كبيرة». لكن بعد مرور خمسة أشهر، لم تصدر مذكرات الاعتقال؛ إذ إن القضاة ما زالوا يماطلون ويؤجلون اتخاذ القرار بسبب ضغوط أميركية تمارس عليهم، فيما لا يتوقف خان عن حثهم على الإسراع في إصدار مذكرات التوقيف من دون جدوى.
يستمرّ نتنياهو وغالانت والإسرائيليون بشكل عام في الإفلات من العقاب ومن أيّ محاسبة جدية على جرائم متمادية ضد الإنسانية
ثانياً، في حزيران الماضي، كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن العدو الإسرائيلي شنّ حملة سرّية ضد «المحكمة الجنائية الدولية» لمنعها من ملاحقة مسؤولين إسرائيليين، استمرت نحو عقد من الزمن. وتحدثت الصحيفة، من خلال مقابلات مع أكثر من عشرين ضابط مخابرات إسرائيلي ومسؤولين حكوميين وشخصيات بارزة في المحكمة وديبلوماسيين ومحامين، عن تفاصيل حملة شنتها إسرائيل لإحباط التحقيقات، تضمنت استخدام وكالات الاستخبارات «للمراقبة والاختراق والضغط، وتشويه سمعة كبار موظفي المحكمة الجنائية الدولية وتهديدهم». كما تنصّتت المخابرات الإسرائيلية على اتصالات عدد من مسؤولي المحكمة، بمن فيهم خان وسلفه فاتو بنسودا، وحصلت على معلومات من مكالمات هاتفية ورسائل بريد إلكتروني ورسائل نصية. وذكر التقرير أن «المراقبة كانت مستمرة خلال الفترة الأخيرة، وسمح ذلك لنتنياهو بمعرفة مسبقة بنوايا المدعي العام». وأشار أحد الاتصالات التي تم اعتراضها إلى أن خان أراد إصدار أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين، لكنه واجه «ضغوطاً هائلة من الولايات المتحدة». وذكرت الصحيفة البريطانية أن «بنسودا، التي افتتحت بصفتها المدعي العام تحقيق المحكمة الجنائية الدولية عام 2021، تعرضت أيضاً للتجسس والتهديد”.
ثالثاً، بعد اغتيال العدو الإسرائيلي القياديين الثلاثة في حركة «حماس»، إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف (لم يؤكد اغتياله إلا من قبل الإسرائيليين)، والذين كان قد طلب المدعي العام إصدار مذكرات اعتقال بحقهم، أصبح تنفيذ المذكرات يقتصر على الإسرائيليين. ويخشى بعض حلفاء إسرائيل والداعمين لها بالمال والسلاح، من أن تشملهم الملاحقات القضائية الدولية بسبب مشاركتهم الإسرائيليين في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ولذا، يمارس الأوروبيون والأميركيون ضغوطاً على «المحكمة الجنائية الدولية» لحثها على وقف الملاحقة، وإلغاء طلب إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت.
ونشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، أخيراً، رواية مختلفة بشأن اتهام خان بالتحرش الجنسي، وقدمت ما سمّته «نظرية جديدة» قوامها أن خان كان قد سعى إلى إصدار طلبات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت، لتحويل الانتباه عن الشكوى التي صدرت بحقه.
فهل فعلاً تحرّش كريم خان بالمحامية وقرر بعد انكشاف أمره التمرّد على الإرادة الغربية والأميركية في حماية نتنياهو وغالانت للتغطية على ارتكاباته؟ أم أن المخابرات الإسرائيلية نصبت فخاً وقع فيه المدعي العام؟ في الحالتين، ومهما كانت نتيجة التحقيقات في مزاعم التحرش الجنسي، يستمرّ نتنياهو وغالانت والإسرائيليون بشكل عام في الإفلات من العقاب ومن أيّ محاسبة جدية على جرائم متمادية ضد الإنسانية في قطاع غزة ولبنان.