مقالات للكاتب

محمد نزال

الأربعاء 30 تشرين اول 2024

شارك المقال

في سبيل الله...

سيُحبَس الدمع. سيُشرَب، إن لزم الصبر. سيُحجَب الآن ليُطلَق ذات يوم، آتٍ، أنهاراً. يومها لن تعرف مآقي العيون أيّ دمع هو. سيكون مزيج حزن وعزّ وكبرياء، وبشرى أنّ الإنسان القيّم ها هنا لم يمت بعد. أنّ إنسان الآلة، وقد شاع وساد وطغى، ظلّ ها هنا مَن يرفض طاعته ويقول: لا.
سيدخلون أرضنا؟ دخلوا؟ بقيّة الله، ثلّة، قاتلت وستُقاتل. معهم أرواح أسلافنا وعظام الأجداد. وهاك رماد الجدّات، مِن قلب الأضرحة الدارسة، يلمحن كلّ قابض على جمر سلاحه، في تلك القرى الهائلة، والدعاء: «حوّطتك بالله». سيتواصلون، بغير الكلمات، فأديم الأرض مِن تلك الأجساد... والأرواح ظلال للعابرين.
طيف موسى الصدر معهم وإسرائيل شرّ مُطلق ما بقيت. وما زال الجنوب صخرة. روح عباس الموسوي معهم وذكريات الشهداء، وأرق حفظ الوصيّة. وذاك راغب حرب صدى كلماته ما زال يتردّد في حسينيّات جبل عامل، فتُسمَع في الجليل وتصل غزّة: «سنضمّد بجرحنا جروح الأرض». سيشعرون بيد محمد حسين فضل الله تمسح رؤوسهم، قائلاً: «أيّها البدريّون... أيّها المجاهدون في خيبر الجديدة، الذين يكرّون ولا يفرّون». سيردف قاطعاً: «مجد لبنان أعطي لكم». مآذن الجبل، وبعض حجارتها أعتق مِن الغزاة وأساطيرهم المؤسِّسة، يصدح مِنها اليوم صوت عبد الحسين شرف الدين. ستسمَع تلك الثلّة المقاتِلة اليوم هناك كلماته، التي، ومنذ قرن، ما زالت تضج في فضاء وادي الحجير والأرجاء: «أيّها الفرسان المناجيد، يا فتيان الحميّة المغاوير... لقد امتدت إليكم الأعناق وشخصت إليكم الأبصار، فاركبوا كلّ صعب وذلول، صادقي العزائم، متساهمي الوفاء، وما التوفيق إلا بالله، يؤتي النصر مَن يشاء، عليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير». سيرون خيال أدهم خنجر يهزّ رأسه موافقاً، ومعه صادق الحمزة وقد ابتعد، وشهداء مِن أجيال تعاقبت وتعاهدت في تلك الأرض على صدّ صنوف الأعداء والغزاة و«تأبى إلا الاستقلال التام الناجز». سيهمس ناصيف النصّار، شيخ مشايخ بلاد بشارة وعموم عاملة، أن ثبّتكم الله وأعزكم ونصركم. سيُبصِرون ظلّه، قبل نحو ٢٥٠ عاماً، شاهراً سيفه فوق جواده، عند بلاطة يارون، إذ متى ما رأى غازياً لأرضه تجده «يهزأ بالمنايا ولا يبالي بالموت». ناصيف آنذاك رفيق الفلسطينيين ومربط خيله عكّا، سيَكنس، كرّة أخرى، مقام يوشع بردائه قبل المعركة، تواضعاً وتبرّكاً، ويحلف أن يرفع بناءه إذا جاء النصر. وعند الليل، بعد الصلاة والدعاء، سيَلمح ناصيف مِن عليائه، وعلى الأرض سيَلمح معه المقاتلون اليوم هناك، ظبياً يقفز بين الروابي وخلفه الرجل المعمّم المجهول ينشد: «أيحل لساكنة العلم.. تفتي في الحب بسفك دمي». سيستبشرون. سيأتي الفرج. ستحتشد أرواح الشهيد الأول، شمس الدين، والشهيد الثاني زين الدين الجبعي، ومعهم الغفاري والحسين وبحر مِن الدماء... فالأرض الآن كربلاء.
اكتملت اللحظة التاريخيّة قبل سنة. لم تبدأ في تلك الصبيحة عند تخوم غزّة، بل وقتذاك اكتملت. صبيحة السابع مِن أكتوبر كانت اللحظة التي نودّع فيها عالم ما قبلها وصفحة جديدة مِن التاريخ تُفتَح. كلّ شيء كان يقول لنا إنّ الوقت لم يعد يحتمل الضحك والمزاح والمرح. لم يعد الوقت يحتمل الصغائر والسفاسف وزواريب الذات. رأينا مِن غزّة ما يكفي ليُحرّم صاحب قلب على نفسه اللهو والتسالي ما بقي. رأينا من هناك ما يكفي ليميت الحي ويحيي الموتى. تمّت الحجّة على العالم. ثلّة مِن لبنان أبت أن يُقرّ بتلك الأهوال على أنّها مِن طبائع الأمور: «وحسبك داء أن تبيت ببطنة، وحولك أكباد تحن إلى القِد». ذلك ما حفظوه عن إمامهم علي بن أبي طالب. ذلك في الطعام، فما بالك بفائق الدم النازف!
بعد تلك الصبيحة، في غزّة، وعلى مدى الشهور، ظلّ بعض الناس يُردّدون عبارة «بعد الحرب». فاتهم أنّ هذه الحرب ليس لها «بعد». ستكون هي حاضرنا إلى أمد بعيد، إلى جيل وما بعد، وسيُصاغ وعي جيلها وفقها ويورّث. هذه الحرب حتى عندما تنتهي، لن تنتهي.
كان يجب الانتهاء مِن إسرائيل قبل الإنترنت. لم يحصل. هي تركة مَن سبقونا. لم تعد هي نفسها بعد الإنترنت الذي اخترعته هي. رعاتها وداعموها في الغرب والعالم ليسوا سوى هي. وسائل التواصل الإلكتروني التي، ذات يوم، ربما سنفهم كيف كانت أحد مقاتلنا في هذه الحرب. تلك منصّات يملكها العدو وكلّ مَن فيها تحت عينه. لم يتركوا نتاج بحث علمي في النفس والاجتماع والاستخبارات والأمن والإعلام إلا ووظّفوه علينا في هذه الحرب. آلاف الحسابات الوهميّة على تلك المنصّات فتكت بأعصاب الناس وحواسهم ويقينهم. ذاك ملعبهم. لمثل هذه الأيام كانوا يجمعون طوال السنوات الماضية ويعبثون، ويراقبون كيف أننا، بكثير مِن «عامّتنا» و«خاصّتنا»... كُنّا غارقين في التفاهة، إلا ما رحم ربي.
تلك الرحمة اليوم، الناجية مِن التفاهة، عليها بعد الله المعوّل. الرحمة تكثّفت في رجال، هناك، في الميدان. هناك حياتنا أو موتنا. هناك ثلّة، ربّما لم يتح للعالم أن يعرفهم، وأسف يعتري عارفهم ألا يُعرَفون. أهل الله الحقيقيّون. هم أهل «في سبيل الله» فلا يطلبون من العالَمين جزاء ولا شكوراً. لا يتنكّرون وإن تنكّر لهم كلّ أهل الأرض، لأن: «في عين الله». أهل الله هم وما الله عندهم بكلمة، بل قيمة القيم، معنى الحياة بلا عوج، معنى كلّ خير وجميل وعدل.
في تراثنا نقرأ عن «الأبدال». اختلف القوم في ما يصح وما لا يصح مِن الأحاديث، لكن عموماً فإنّ الأمم، في لحظات مِحَنها الكبرى، تذهب إلى استحضار رموزها الأنقى، الخُلّص، للنجاة بهم، وها هم اليوم في الميدان، يُقاتلون، هناك، حيث تتصل الأرض بالسماء. فيهم مَن هم «أندر مِن الكبريت الأحمر»... بهم ينزل الغيث وبهم تنبت الأرض، بهم يُنتصَر وبهم يُصرَف العذاب، وبهم تهبط الرحمة. يتضاءلون، ولكن لا ينقرضون، لا تخلو منهم الأرض أبد الدهر.
أن نثبت، أن نبقى، أن ندعو لهم وأن نحفظ ظهورهم. هم الآن كلّنا، تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، نصرهم الله، وما النصر إلا مِن عند الله.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي