أوحت التحليلات الغربية حول الهجوم الإسرائيلي على إيران، والذي أريد له أن يعكس «هيبة الردع» لدى إسرائيل، بأن نتائجه جاءت مغايرة؛ إذ أفضت المشاهد التي بثّها إعلام الجمهورية الإسلامية عن مشاهد التصدّي للصواريخ والأجسام المُغِيرة على مدى أربع ساعات، إلى انطباع معكوس حول «المِنعة الإيرانية»، ولا سيما أن الهجوم الذي أُطلق عليه «أيام الرد»، استُبق بسلسلة واسعة من «العنتريات» من جانب كبار قادة الاحتلال، ومن أبرزهم وزير الأمن، يوآف غالانت، الذي قال، قبل أيام قليلة، إنّ العالم سيُدرك قوة إسرائيل حين يتم توجيه الضربة إلى طهران.

واشنطن تُقنِع نتنياهو: «مَن يَحكم مَن؟»
وفي مؤشر إلى ما اعتبره مراقبون إعادة تصويب لـ»جدلية (مَن يحكم مَن؟)» على مستوى العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، تطرّقت صحيفة «واشنطن بوست» إلى أهمية المحدّد الأميركي في رسم ملامح ما وضعته إدارة الرئيس جو بايدن في خانة «الدفاع عن النفس» من جانب إسرائيل، وهو ما تجلّى في تأكيد أميركا علْمها بأمر الهجوم قبل حدوثه، على رغم نفيها أيّ مشاركة فيه من جانبها. من هنا، نقلت الصحيفة عن مسؤول أميركي رفيع، تأكيده أنّ «إدارة بايدن أعربت عن أملها في أن يكون الرد الإسرائيلي الذي تم التدارس في شأن مستواه ومدياته (بين الأميركيين والإسرائيليين) معتدلاً بما يكفي لتهدئة الصراع، وعلى نحو يحول دون استفزاز إيران ودفعها إلى شن هجوم مضاد»، كاشفاً أن «الرئيس (بايدن) وفريقه الخاص بشؤون الأمن القومي عملا مع الإسرائيليين، خلال الأسابيع الأخيرة، لحثّهم على القيام بردّ مركّز ومتناسب يسمح بتقليص مخاطر إلحاق الأذى بالمدنيين». وأضافت الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين أميركيين، أن «إسرائيل بدت متقبّلة للإشارات الأميركية» في هذا الخصوص، على خلفية قيام نتنياهو بإطلاع بايدن على نيّة بلاده مهاجمة أهداف إيرانية في وقت سابق من الشهر الجاري، كاشفة أن لا معلومات دقيقة عن حجم الأضرار البشرية أو المادية التي لحقت بالجانب الإيراني حتى الآن.
وعن حسابات حكومة نتنياهو، نقلت «واشنطن بوست» عن مسؤول إسرائيلي، قوله إنّ الهجوم «هدف فقط إلى توجيه رسالة إلى طهران مفادها أن تل أبيب لديها القدرة على ضرب أهداف» في العمق الإيراني. كما نقلت الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي آخر، تأكيده أن تفادي حكومته ضرب منشآت إنتاج النفط أو مواقع الأبحاث النووية لإيران، جاء من منطلق قناعتها بأن قصف ذلك النوع من الأهداف سيجعل من فرضيّة «إثارة موجة تصعيد أخرى ضمن دورة الهجوم والهجوم المضاد» التي انخرط فيها الطرفان منذ أشهر، واقعاً. وبحسب الصحيفة، فإنّ المسؤولين في حكومة نتنياهو «يأملون في أن يفضي ردهم المدروس (ضدّ إيران) إلى رسم خطوط التصعيد، بحيث تكون ضمن سقوف أدنى من سقف الضربات المتبادلة الأخيرة». وضمن الإطار نفسه، لفتت صحيفة «ذا غارديان» البريطانية إلى جانب من دوافع تخفيف إسرائيل من حجم هجومها على إيران، موضحة أنّ «الولايات المتحدة شديدة الحذر من إمكانية الانجرار إلى جولة قتال (في الشرق الأوسط)، وما يصاحب ذلك تأثيرات سلبية على قطاع النفط العالمي»، بينما «تخشى إسرائيل، من جهتها، من إمكانية خوض حرب استنزاف مكلفة مع إيران بالتزامن مع خوضها قتالاً في غزة ولبنان”.

«كأنّ شيئاً لم يكن»!
من جهتها، عرّجت صحيفة «نيويورك تايمز» على مدلولات ما جرى في الشكل والمضمون، واصفةً الغارات الإسرائيلية بـ»الهجوم النادر الذي تتعرّض له إيران من قِبَل سلاح جو تابع لقوة أجنبية منذ حربها مع العراق خلال الثمانينيات»، مضيفة أنّها «المرّة الأولى التي تعترف فيها إسرائيل علناً بالقيام بهجمة عسكرية داخل إيران، بعد سنوات من الحفاظ على حالة الصمت الاستراتيجي» في شأن هجماتها هناك. وتابعت الصحيفة الأميركية أنّ «الهجوم الانتقامي الذي شنّته إسرائيل على إيران صباح يوم السبت، كان إيذاناً بمرحلة جديدة وأكثر خطورة في الصراع المستمر بين الطرفين منذ سنوات»، مستدركة أنّ «هذا الصراع، أقلّه حتى الآن، لم يصل إلى حدّ إثارة حرب شاملة، ولا سيما أنّ الهجوم لم يستدرج تهديداً إيرانياً فورياً بالردّ، ما خفّف من حدّة المخاوف من إمكانية خروج الصراع بين اثنين من أقوى الجيوش في الشرق الأوسط عن السيطرة». ومع التبنّي الإسرائيلي الرسمي للضربة على إيران، أوضحت الخبيرة في شؤون إيران في «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، وهي مجموعة بحثية مقرها برلين، إيلّي غيرانمايي، أنّ «سنوات حرب الظلّ (بين طهران وتل أبيب) تحوّلت إلى صراع مفتوح بالكامل، وإنْ كان لا يزال صراعاً قابلاً للاحتواء والضبط، في الوقت الحالي»، معتبرة أنّه «يمكن طهران أن تبتلع هذه الضربات ضد منشآتها العسكرية، وأن لا تعمد إلى الردّ بطريقة تستدعي مزيداً من التحركات (العسكرية) الإسرائيلية ضدّها”.
وانطلقت «نيويورك تايمز» ممّا اعتبرته «تقليلاً من شأن الضربات» على المقلب الإيراني، وبخاصة عبر وسائل الإعلام التي ظلّت تبثّ برامجها وفق المعتاد، مبيّنة أنّ «الطبيعة المركّزة والمحدودة نسبياً لتلك الهجمات (الإسرائيلية) سمحت للمؤسسات الرسمية الإيرانية بإبداء مظاهر العودة إلى الحياة الطبيعية مع حلول صباح يوم السبت (أمس)، على غرار مبادرة هيئة الطيران إلى إعادة فتح المجال الجوي الإيراني، وقيام وكالات الأنباء الرسمية ببث صور ومقاطع مصوّرة لعودة الأمور إلى طبيعتها، وهي كلها مؤشرات، وفق محللين، إلى أن قيادة إيران تحاول التقليل من أهمية الهجوم الإسرائيلي والحد من توقعات الجمهور المحلي في إيران بردّ (مرتقب) كبير». من هذه الخلفية، علّق الخبير الإسرائيلي في شؤون إيران في «معهد دراسات الأمن القومي» في تل أبيب، يوئيل غوزانسكي، بالقول إنّ الغارات الجوية الإسرائيلية التي طاولت مواقع عسكرية في العاصمة الإيرانية، وأماكن أخرى من جنوب، وغرب البلاد، تشكّل «بداية لمرحلة جديدة وخطيرة، تشوبها الكثير من الحساسيات الإضافية» على مستوى التفاعلات في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن «النغمة» التي يتم سماعها في إيران اليوم توحي، وبشكل جوهري، بأنّ «شيئاً لم يكن». ويستنتج غوزانسكي أنه «من الممكن أن يتوقف الجانبان عند هذه الجولة»، مشيراً إلى وجود احتمالات بحصول رد إيراني على نطاق «محدود»، أو «عدم حصوله» في الأساس.

معادلة ردع «مؤقّتة»؟
ومع ذلك، حذّر محللون من أنه «حتى في حال انحسار موجة التصعيد الأخير» بين طهران وتل أبيب، إلا أن الهجوم الجوي الإسرائيلي في العمق الإيراني «قد دفع بكلا الطرفين نحو مسار يحمل نذر صراع لا يمكن السيطرة عليه»، وخصوصاً أنّ حكومة بنيامين نتنياهو تزعم إعطاب الدفاعات الجوية الإيرانية ومنظومتها الرادارية، وهو الأمر الذي سوف «يسهّل مهمّة الطيران الإسرائيلي في مهاجمة إيران مستقبلاً، على نحو إمّا يردع طهران عن الردّ بقوّة، أو يشجّع إسرائيل على محاولة شن المزيد من الهجمات، أو الأمرَين معاً».
ومن منظور هؤلاء، فإنّ الخشية هي أن تكون إسرائيل، على الرغم من ضبط النفس النسبي الذي أظهرته في هجوم يوم السبت (أمس)، «بصدد التمهيد لضربة أكبر (لإيران) في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأميركية في أوائل تشرين الثاني المقبل»، وهي الفترة التي سيعقبها مرحلة انتقالية على مستوى السلطة في واشنطن، وما سوف يترتب عن ذلك من «تضاؤل في نفوذ واشنطن واهتمامها بالمسار الذي سيأخذه الصراع الإسرائيلي - الإيراني» خلال الفترة المذكورة. وتأسيساً على ذلك، تذهب صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أنّه «سيكون هنالك حالة من الارتياح في مختلف أنحاء إيران وفي المنطقة عموماً، لأن الولايات المتحدة تمكّنت من كبح جماح نتنياهو في الوقت الراهن»، محذّرة من أنّ «الخوف هو أن يكون الأمر مجرد قيد مؤقّت (يلتزم به الأخير) ينحصر زمانياً في الفترة التي تسبق الانتخابات الأميركية». وتوضح الصحيفة أنّ دخول الإدارة الأميركية في طور «البطة العرجاء» في الفترة المقبلة، هو لحظة يمكن أن يتعامل معها نتنياهو بوصفها «نافذة ذهبية، للقيام بالمزيد من عمليات استنزاف القدرات (العسكرية) الإيرانية”.