اليمين على ضفتي البحر بين بيروت ونيقوسيا، من حزب القوات اللبنانية إلى جماعات عُنفيّة فاشية مماثلة في قبرص، يراكم فوق التوتّر توتّراً باعتداءاته العشوائية على السوريين، فيما الأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية تزداد عمقاً وخطورةً في سوريا ولبنان وفلسطين، مع توق الملايين للخروج من أرض النار، بأي الوسائل.
وإذا كان خريستودوليسدس يخاف على دولته وحكمه من أسباب اللااستقرار الكثيرة ساعياً إلى تخفيفها من بوابة لبنان، فإن فون دير لاين، ومعها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لا تخشى على شيء أكثر من الدولة العبرية، كما أثبتت وقائع الأشهر الستة الماضية.
في بيانها الأخير منتصف الشهر الماضي حول سوريا، كانت فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتّحدة واضحة في تصعيد العداء تجاه الدولة السورية لأسباب كثيرة، أبرزها تصاعد الصراع الغربي مع روسيا ومسار الحرب في غزة. والنتيجة، منع توفّر أبسط شروط عودة النازحين، والمساهمة في تشكّل موجات لجوء جديدة. لكن مع ذلك، تأتي فون دير لاين إلى بيروت مع آمال لبنانية وقبرصية بعيدة عن التحقّق.
المعلومات المتوفّرة حول الزيارة حتى الآن، لا توحي بأي تحوّل في الموقف الأوروبي الغربي تجاه المسألة السورية والنازحين في لبنان، ما يعني استمرار سياسة دعم بقاء النازحين في لبنان وعرقلة تطوّر العلاقات العربية واللبنانية مع سوريا ودعم الجيش اللبناني لضبط التهريب عبر البحر، من دون أي بحثٍ عن حلول للبنان وسوريا تخفّف أزمة اللجوء في قبرص واليونان وإيطاليا وإسبانيا وغيرها.
هذه الأجواء السياسية المتشنّجة، تظهر في استمرار قرار عدم دعوة المنظمات السورية (كالهلال الأحمر السوري) إلى مؤتمر الحوار لـ«المجتمع المدني السوري»، للسنة الثالثة، في 30 نيسان الجاري. وهو المؤتمر التمهيدي لمؤتمر بروكسل 8 لدعم النازحين، الذي سيُعقد في 27 أيار المقبل على مستوى وزاري. كما تظهر في القوانين المعروضة أمام الكونغرس الأميركي لزيادة الخناق على سوريا وتشديد الحصار على الشعب السوري.
بالتوازي مع المراوحة السلبية الأوروبية، جاءت زيارة الرئيس نجيب ميقاتي لباريس، ومن ثمّ اتصاله برئيس الحكومة السورية حسين عرنوس أول من أمس، للبحث في مسألة النزوح. لم تظهر بعد التفاصيل الكاملة للزيارة وما اتفق ميقاتي عليه مع الفرنسيين بخصوص المسألة، إلّا أن الاتحاد الأوروبي يبدو جاهزاً لدفع رشوة إضافية للبنان بحوالي 160 مليون يورو، تكفي لإطالة أمد بقاء النازحين، من دون أي حلّ للأزمة، ستكون «هديّة» للبنان بيد فون دير لاين. وهذه الرشوة، ليست يتيمةً، بل يضاف إليها ما يُحكى عن موافقة فرنسية - إيطالية على تمويل الجيش لثلاث سنوات بقيمة مليار يورو. الجزء الأساسي من التمويل طبعاً هدفه المستقبلي توسيع عديد قوة الجيش في الجنوب بما يفوق عديد مقاتلي المقاومة بحسب المفهوم الغربي، لكنّ الهدف الأساسي الثاني، هو مراقبة الشواطئ لمكافحة الهجرة «غير الشرعية».
في الداخل، تتمحور الطروحات اللبنانية النابعة من عجز فعلي عن التأثير في مجرى السياسات الدولية، حول فكرتين أساسيتين: حل أزمة المحكومين السوريين في السجون اللبنانية، وعددهم حوالي 2500، فيما يسعى اللبنانيون إلى تثبيت فكرة وجود مناطق آمنة في سوريا، على أمل أن يعود أهلها من لبنان إليها.
الولايات المتحدة والدول الغربية مستمرة في منع توفّر أبسط شروط العودة
لكنّ هذه الطروحات تصطدم بأرض الواقع، إذ يبدو من الصعب إقناع الدول الغربية بالسماح بتسليم المحكومين لسوريا. فعندما طلبت دمشق من لبنان قبل شهرين، على سبيل المثال، تسلّم 12 محكوماً من تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي، تدخّلت كل السفارات الغربية لمنع ذلك. كما يطرح اللبنانيون فرز المحكومين بين جنائيين وأمنيين لنيل الرضى الغربي، لكن ماذا عن الرضى السوري؟ وهل ستقبل سوريا بالشروط الغربية على لبنان؟ ليس واضحاً بعد. هذه الأسئلة، تنتظر الزيارة الموعودة للمدير العام للأمن العام بالنيابة اللواء الياس البيسري إلى دمشق والتي لم يُحدّد موعد لها بعد، بانتظار تبلور المواقف قبل الإقدام على خطوات «ناقصة»، ومن دون جدوى.
أما في ما يتعلق بالحديث عن مناطق آمنة في سوريا يعود النازحون إليها، فيستند إلى ما يقوله ممثلو الأمم المتحدة في دمشق حول الأمن في مناطق سيطرة الحكومة السورية، وما قاله قبل مدة منسّق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة وممثل مفوّضية شؤون اللاجئين لوزير الخارجية عبدالله بو حبيب حول عدم تسجيل حالات اضطهاد من قبل الحكومة للعائدين. لكنّ الأمن بمعناه المباشر شيء، وتوفّر مقوّمات الحياة لعودة السكّان في المناطق المتضررة شيء آخر تماماً. صحيح أن غالبية المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية باتت آمنة نسبياً إلى حدّ كبير من الجانب الأمني، باستثناء بعض المخاطر في البادية ودير الزور ودرعا، إلا أن الأحياء والمناطق التي ينحدر منها النازحون في لبنان إجمالاً، تكاد تكون ركاماً، ولا بنى تحتية فيها أو منازل صالحة للسكن. ورغم ذلك، تبدي الحكومة السورية دائماً، بحسب المسؤولين اللبنانيين، نيات إيجابية للمساعدة في إعادة النازحين، لكنّها تربط المسألة أيضاً بالحاجة إلى الموارد المادية لتوفير احتياجات العائدين.
بين الفشل اللبناني، وفشل قبرص ومعها الدول ذات التفكير المشترك والمتضررة بشكل كبير من موجات اللجوء، في فرض أي تعديل بسيط في نظرة الدول الأوروبية الغربية تجاه المسألة السورية، تبقى زيارة خريستودوليسدس وفون دير لاين ضمن سياسات الاستيعاب القديمة من دون أي جديد، سوى تغذية اليمين بمزيد من التطرّف.