يكشف «تقدير الوضع» المكثَّف الذي قدَّمه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في الذكرى السنوية الـ 23 للتحرير، أن التهديدات الإسرائيلية الأخيرة ترتبط بقراءة الأجهزة المختصة في تل أبيب لمخاطر وتحديات ترافق التحولات الإقليمية والدولية، وأن العدو يعدّ لخيارات بديلة بعد فشل محاولاته لإحباط المسار التصاعدي لمحور المقاومة في كل ساحاته. ويتزامن ذلك مع إقرار القادة الإسرائيليين العسكريين والأمنيين، حاليين وسابقين، بتآكل الردع الإسرائيلي بما يشمل الساحة الداخلية.هذه القراءة تحوّل ترميم صورة إسرائيل الردعية هدفاً أولَ لكلّ المؤسسات والمسؤولين، ومحاولة تعزيزها باستهداف قادة سرايا القدس في قطاع غزة، انطلاقاً من أنها الأضعف على المستويين العسكري والمادي بين ساحات المقاومة، ولاستبعاد أن تؤدي إلى مواجهة كبرى في القطاع تتدحرج إلى حرب إقليمية. وعلى الخلفية نفسها، عمد العدوّ إلى رفع مستوى التهديدات ضد بقية الساحات من لبنان إلى إيران مروراً بسوريا.
وفق هذه الرؤية، انطلقت رسائل العدو ومواقف قادته من تقدير مفاده أن تطور معادلة القوة الإقليمية سمح لمحور المقاومة بتطوير مفاهيمه العملياتية. ويشكل تحذير رئيس الاستخبارات، أهارون حاليفا، من أن عملية مجدو لن تكون لمرة واحدة، تجسيداً لهذه الرؤية. وليس بالضرورة أن يكون تحذيره نابعاً من معلومات محددة في هذا المجال، وإنما من تقدير لخيارات حزب الله العملياتية في ضوء ما يشهده لبنان والمنطقة من متغيّرات.
الأهم، في هذا المشهد، أن ردّ السيد نصرالله كان ينبع أيضاً من قراءة مختصرة لمعالم التحولات الإقليمية والدولية التي تتقاطع مع المسار التصاعدي لتعاظم محور المقاومة. خطورة هذه القراءة - من منظور إسرائيلي - أنها تؤشر إلى أن ردود الأمين العام لحزب الله تستند إلى قاعدة معطيات وتقديرات صلبة، تحولت إلى عامل قوة رئيسي، ومصدر قلق لقادة العدو من أنه لن ينفع معها كل أنواع الحروب النفسية والتهويلية.
يشي ذلك، مع إقرار صريح أو من دونه، بأن مؤسسات التقدير والقرار في كيان العدو - بعد رد السيد نصرالله – أكثر قلقاً وقناعة بصحة مخاوفها، وأكثر خيبة من انتظار مفاعيل هذه الرسائل لدى حزب الله. ووفق هذا المفهوم، يتضح أن نصرالله أحبط جزءاً أساسياً من الرهانات والتقديرات التي انطوت عليها هذه التهديدات لجهة القرار في حزب الله ومحور المقاومة، عبر التهويل بأن أي مبادرة أو ردّ يمكن أن يؤدي إلى حرب كبرى.
مشكلة العدو أنه يواجه عدواً لا خطوط حمراء أمام تطوير قدراته الدفاعية والهجومية


كان بإمكان الأمين العام لحزب الله أن يكتفي بوصف تهديدات قادة العدو بأنها جزء من حرب نفسية فاشلة ومكرّرة، وهو رد صحيح وكاف. لكن يبدو أنه تعمّد أن يوضح لقادة العدو مجموعة حقائق ووقائع، من ضمنها معالم قراءة حزب الله للمشهد الإقليمي والدولي، لتأكيد أن مواقفه وخياراته تنبع من قراءة شاملة ودقيقة لا تنفع معها كل هذه المحاولات. واستناداً إلى القراءة ذاتها، فإنّ من ينبغي عليه أن يخشى الحرب الكبرى هو العدو. والمفهوم نفسه ينسحب أيضاً على رد نصرالله على فرضية خطأ التقدير الذي حذَّر قادة العدو من أن يؤدي أي عمل عسكري لحزب الله، ابتداءً أو رداً، إلى حرب كبرى.
قد يكون مفاجئاً لكثيرين الحديث عن فشل العدو الإسرائيلي، في التقويم الإجمالي لتجاربه التاريخية، في تقدير المنعطفات الاستراتيجية. ولا يقلّل ذلك من امتلاكه أفضل أجهزة الاستخبارات والتقدير في العالم، إلا أن أي تقدير مستقبلي للتطورات يتحرك في مساحة لايقين، تتسع وتضيق بحسب مجموعة عوامل.
مع ذلك، فإن استعدادات جيش العدو وخططه الجاهزة التي تحاكي أسوأ السيناريوهات، في مقابل عدم جهوزية الطرف العربي بما يتلاءم مع حجم التهديد، مكَّنته من احتواء المفاجآت التي انطوت عليها هذه المنعطفات واستغلالها عبر تحويلها إلى فرص وانتصارات.
لكنّ مشكلة العدو في هذه المرحلة التاريخية أنه يواجه عدواً - حزب الله - يرى أن بناء وتطوير قدراته الدفاعية والهجومية أولوية تتقدم على أي أولوية أخرى، وأن هذه العملية لا حدود لها أو لا خطوط حمراء. والسبب، بكل بساطة، أنها تنطلق من حقيقة أن إسرائيل التي تملك أكثر الأسلحة تطوراً هي تهديد وجودي للبنان فضلاً عن الشعوب والدول الأخرى. هذه القناعة الراسخة في وعي حزب الله، لم تكن طوال تاريخه مجرد مفهوم نظري، بل تحوّلت إلى برامج وخطط استطاع في ضوئها مواجهة التهديدات التي حملتها المتغيّرات، وأن يحوّلها إلى فرص وانتصارات. لذلك، فإن أي حديث إسرائيلي عن إمكانية مفاجأة حزب الله - بالمعنى الاستراتيجي - مجرد وهم. وفي أجواء ذكرى التحرير، قد يكون من المناسب استحضار ما أعلنه رئيس وزراء العدو السابق إيهود باراك، قبل أشهر من اندحار الجيش من لبنان عام 2000، «رغم أننا نمتلك أفضل أجهزة الاستخبارات والتقدير في العالم إلا أننا نحتاج إلى رأس كثير الدوران لكي نعرف كيف نال منا حزب الله».