بالتزامن مع تبنّي الأجهزة الرسمية الإسرائيلية تقديراً رسمياً بأن حزب الله يقف وراء عملية مجدو، في 13 آذار الماضي، أُعيد استحضار اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان لجهة تأثيره في معادلات الردع القائمة بين المقاومة وكيان العدو. فاعتبر رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو أن الاتفاق عزّز قوة ردع حزب الله، مستشهداً بعملية مجدو وما تلاها. فيما استبعدت التقديرات الأمنية الإسرائيلية أيّ ارتباط بين الاتفاق وبين جولة التصعيد الأخيرة، بما فيها التفجير في مجدو وإطلاق صواريخ من لبنان وسوريا باتجاه مواقع إسرائيلية بعد اعتداءات قوات الاحتلال على المسجد الأقصى في شهر رمضان المنصرم.ومع أن الخلاف في تقدير مفاعيل المحطات الامنية والسياسية أمر مألوف بين المؤسسات السياسية والامنية، إلا أن له، في الظروف السياسية الإسرائيلية الحالية، أبعاداً ونتائج تتجاوز البعد المهني، وتؤثر على السجالات السياسية التي تعصف بالكيان حول ما بات يُعرف بملف التعديلات القضائية. إذ إن كلاً من الطرفين يوظّف قراءته حول مسؤولية تآكل صورة إسرائيل لدى أعدائها في سياق السجال الداخلي.
من الواضح أن تحميل نتنياهو مسؤوليةهذا التآكل وما تلاه من عمليات الى اتفاق الترسيم مع لبنان يخدمه في تبرئة نفسه أمام الاتهامات الموجّهة إليه بأن تصميمه على الانقلاب القضائي الذي عمّق الانقسام الداخلي، هو منشأ تدهور صورة إسرائيل ومكانتها الدولية والإقليمية، كما يرى كثيرون في المنظومتين السياسية والأمنية. في المقابل، ترفض المعارضة والأجهزة الأمنية هذا الربط باتفاق الترسيم، محمّلة نتنياهو المسؤولية الأساسية عن كل ما يشهده الكيان، في سياق الضغوط لكبح حكومته عن المضيّ في المسار القضائي.
بعيداً عن التوظيف الداخلي للتقديرات السياسية والأمنية، يُفترض أن الطرفين يدركان أن الرسائل والضغوط المتبادلة التي أدّت الى اتفاق يلبّي مطالب الدولة اللبنانية، ترتّب عليها لدى جهات التقدير والقرار على طرفَي الجبهة تبلور رؤية حول سقف استعداد كل منهما وقدراته وإرادته لتكريس المعادلات القائمة أو تعديلها. فلو لم يدرك العدو إرادة المقاومة الحازمة بالذهاب في تهديداتها حتى النهاية إن لم تُلبّ مطالب الدولة اللبنانية، لما أجمعت أجهزته الأمنية على التوصية بتلبيتها تفادياً للحرب. وقد كان لـ«معركة الإرادات» هذه دور رئيسي في كشف حرص العدو الشديد على تجنب مواجهة عسكرية واسعة مع حزب الله حتى الآن، وأيضاً في كشف استعداد لخوض هذه المواجهة إذا تطلّب الأمر. والنتيجة المسلّم بها لذلك هي تعزيز قوة ردع المقاومة وتراجع في قوة ردع العدو.
الخلاصة، أن تقدير كل من نتنياهو والأجهزة الأمنية ينطوي على قدر من الصحة والخطأ. مؤشر الصحة في تقدير نتنياهو أنه لو انتهت محطة ترسيم الحدود على غير النتيجة التي خلصت إليها لكانت معادلات الردع تغيّرت جذرياً عمّا هي عليه الآن وفق التقدير الذي يتبنّاه نتنياهو نفسه على الأقل. والمؤشر الأبلغ دلالة على صحة هذا التقدير هو إجماع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على تلبية مطالب لبنان لتفادي نشوب مواجهة عسكرية.
«معركة الإرادات» كشفت حرص العدوّ على تجنّب مواجهة واسعة مع حزب الله واستعداد المقاومة لخوضها


في المقابل، منشأ صحة الاعتراض على تقدير نتنياهو أن هذه المعادلات غير مطلقة، وقابلة للتغيّر في كل الاتجاهات بحسب المتغيّرات اللاحقة التي يمكن أن تؤثّر فيها سلباً أو إيجاباً. لذلك، فإنّ تعزيز الردع يحتاج الى تغذية متواصلة لتثبيته وتعزيزه، وخصوصاً في مواجهة عدوّ كالعدوّ الإسرائيلي وظروفه الدولية والإقليمية. وفي هذا السياق، تأتي مفاعيل ما تواجهه إسرائيل على المستوى الداخلي، والذي لا يمكن لأحد - من حيث المبدأ - تجاوز نتائجه وتداعياته على صورة إسرائيل وتآكل ردعها. وهكذا تتجلّى حقيقة ومساحة التباين بأنّ انتصارات حزب الله المتراكمة، ونجاحه في تطوير قدراته في العديد من المجالات، وصولاً الى محطة ترسيم الحدود، هي التي قوّضت قدرة الردع الإسرائيلية، أو أنّ للصراع الداخلي دوره في هذا المسار الانحداري.