يوماً بعد آخر تتسع دائرة المتفرغين لصنع الأكاذيب، ومن ثم المسارعة إلى تصديقها، أو يتظاهرون بذلك. ومن بعد أن كانت أسرار هذه «الصنعة» مقصورة على «نخبة» مختارة من أهل السلطة، أو الطامعين بها، أمست، مع رواج النوع، بمثابة مهنة ملازمة، ولا غنى عنها، لكل «متعجّل» إلى «تحقيق ذاته» بعيداً عن الاستحقاق المقرون بالجهد أو الكفاءة، وفي غفلة عنهما. إنما يبقى أن لكل صانع بصمة خاصة به، تميّزه عن زملاء «الكار»، خصوصاً المحدثين منهم. وإذا كان صحيحاً أن لا «هوية» واحدة لهذا المتعجل، فإن الصدارة المؤكدة هي لـ «الناشط». فالناشط تعريفاً هو نقيض المناضل وخصمه اللدود، ولأنه كذلك، فهو في مقدم المتعجّلين، خصوصاً بعدما تجاوز اختبارات التأهيل بسهولة ما بعدها سهولة، وأثبت لنفسه قبل «مصنّعيه» من أصحاب البراءات الأصلية، مهاراته في التلوّن، واستعداداته الفطرية، للكسر مع «النواهي» الإنسانية والأخلاقية، وصولاً إلى حد القطع الحاسم معها، وكل ذلك من غير أن يرف له جفن أو ترمش له عين. ولنا في الواقع أمثلة وشواهد محلية وإقليمية لا حصر لها، ربما كان أشهرها المدعو كنعان مكية.والأرجح أن دائرة هؤلاء المتفرغين ما كانت لتتسع بهذا القدر غير المحسوب، لولا «قصص النجاح» المحققة لهذا أو لذاك من المتعجلين الذين رُسم لبعضهم أن يصيروا نواباً أو وزراء، ولبعضهم الآخر تزعّم الأحزاب أو قيادة النقابات... فمن خلال التلطّي وراء المزاعم وليس آخرها مزاعم «التغيير والإصلاح»، وبناء على الإلمام المجرّب بأسرار الصنعة الأم، ارتقى من ارتقى، أو نجح من نجح، سواء في «التسلل» إلى نعيم «الندوة البرلمانية» أو غيرها من المناصب «الثقافية» أو «النقابية» أو «الإعلامية» أو الاجتماعية... والتي لا تقلّ شأناً عن تلك السياسية أو العسكرية، خصوصاً من حيث العوائد المادية أو المعنوية، التي سبق أن وُعد بها لقاء انتظام تبعي حديدي مسبق ومعروف بحدود المسموح والممنوع.
الدليل الأخير على مردودية هذه الصنعة واتساع دائرتها هي الضجة المثارة من حول قرار نقيب المحامين في بيروت، والتي تخفي في طيّاتها ما يمكن تسميته بفورة كذب جديدة لا تختلف، من حيث الجوهر، عما سبقها من فورات، وإن ارتدت، هذه المرة، لبوساً مختلفاً عنوانه «الدفاع عن الحريات»، و«رفض تكميم الأفواه» وغيرها من التلفيقات المعلّبة التي يراهن أصحابها، أو الناطقون بها، على تعمية الأنظار لزيادة تمكينهم من العمل بحرية أكبر في خدمة الأهداف الممولة التي انتدبوا لها، وذلك بعيداً عن أي نوع من أنواع المساءلة.
وعليه، يمكن القول، أن لا جديد يعتدّ به أو يبنى عليه. فثمة ما يذكر بالخيال السقيم إياه، الذي لا يريد أن يتعلم من تجارب فشله المتكرر، ولا من عواقب هذا الفشل. ثم أن ركاكة التلفيقة وتهافتها البيّن يتناقض مع أي عنوان من عناوين الحريات العامة، وهي الحريات التي تبقى وبرغم انخفاض سقفها اللبناني أجلّ وأنبل من أن تستهلك في بازار من نوع البازار الذي يجري التسويق له. إن ألف باء الوعي يفرض على أصحاب التلفيقة بعض التواضع، والكف عن تمريغ الحريات في وحول الخلافات التقنية وتصفية الحسابات الشخصية. في حين أن الإصرار عليها يشي بمدى التحلّل الأخلاقي الذي يمكن أن يصل إليه تجار القضايا وسماسرتها الصغار. أما المفارقة التي علاج لها فهي في أن تصديقهم للأكذوبة يكاد يفوق الوصف.
طبعاً، لغيرنا أن يصدق ما يشاء، ولغيرنا، أيضاً، أن يواصل التنعّم بجهله، وبنوعيه، الموروث والمكتسب، أما نحن فمن واجبنا تعرية التلفيقة وفضح صنّاعها. كما أن من مسؤوليتنا توضيح ما التبس ويلتبس على كثيرين، وقد يكون بعضهم، لا كلهم، من أصحاب النيات الحسنة الذين يأخذون بما يرون من دون التدقيق اللازم، أو ينساقون مع الموجة، أي موجة، امتثالاً مع إيقاع من يرون فيهم مثلاً ومثالاً.
مرة جديدة، إن الصخب المثار في مكاتب نقابة المحامين وأروقتها، هو محض خلاف تقني بين أهل البيت الواحد، وهو بيت لا يختلف في تصميمه أو وظائف مرافقه عن غيره من بيوت السلطة العفنة، وموضوعه الوحيد هو التنافس على «كعكة» التمويل المثقلة بالأصفار ونقطة على السطر. وكل محاولة لتنزيه الخلاف، أو إلباسه أبعاداً قيمية من نوع «الدفاع عن الحريات» و«رفض تكميم الأفواه»، هو إمعان في الكذب المعروف والمجرب، هذا إن لم يكن نوعاً مبتكراً منه، وهدفه الأساس إلى مواصلة ذر الرماد في العيون القصيرة، محاولة إضافية متجددة ومكشوفة لزيادة الأصفار التمويلية ولتحصيل شرعية لا توفرها الدولارات ولا اليوروهات الممنوحة بسخاء لا مبرر منطقي له، غير الخضوع لمضمون الأجندة التي تحكم عمل المانح الدولي أو الإقليمي، الذي يتولى مهمة لا تقل في قذارتها عن مهام القتل والإبادة.
«مانيفستو» فضلو خوري التاريخي إشارة ربيعية لا يمكن لها أن تخطئ!