الدولة تنهار؛ قطاع يتهاوى تلو الآخر. موظفوها أكلهم اليأس، تماماً كما ابتلع الانهيار أُجورهم. هم «أخذوها من قاصرها» وفضّلوا تسيير أعمال النّاس يوماً أو يومين، أسبوعياً. ورغم ذلك، يبدو أنّ قلّة قليلة تتأثّر بهذه الإضرابات المتتالية التي ينفّذها موظفو القطاع العام. فقد اعتاد المتقاضون، مثلاً، توقّف القضاء عن العمل؛ مرةً لأنّ القضاة اعتكفوا ومرّة لأن المساعدين القضائيين توقّفوا عن العمل، ومراراً لأنّ الموظفين التزموا بقرار الإضراب. وهو ما يحصل أيضاً في الوزارة والإدارات العامّة كافةً. لذا، أخذ المواطنون «احتياطاتهم المسبقة» عن إضراب الأساتذة والمعلمين لتتراجع أعداد التلامذة في المدارس الرسميّة؛ ففي الأصل «كُسرت شوكة» قطاع التعليم الرسمي ولم يعد الحديث عن انتشاله يستهوي المسؤولين. بعضهم يرى أنّ القطاع «محشوّ» بالتوظيفات العشوائية والمحسوبيات السياسية، فيما البعض الآخر يؤمن بأنّ التعليم الخاص «بكفّي وبوفّي» وصار التعليم الرسمي لزوم ما لا يلزم.في مقابل كلّ التحرّكات التصعيديّة والإضرابات، لإضراب موظّفي هيئة «أوجيرو» وقع آخر، باعتبار أنّه من أكثر القطاعات حيويّة وارتباطاً بحياة الناس. ليس سهلاً أن يؤدّي هذا الإضراب في مراحله المتقدّمة إلى انقطاع خدمتَي الاتصالات والإنترنت عن المواطنين والشركات والمؤسسات العامّة والخاصّة، ما يؤدي إلى عزل لبنان عن العالم بالمعنى الحرفي. كان يُمكن لهذا القطاع «الربّيح» أن يُدخل إلى خزينة الدولة عائداتٍ بملايين الدولارات، إلا أن ذلك لم يحصل. يقول المدير العام لـ«أوجيرو» عماد كريديّة إن عائدات الاتصالات لدى أوجيرو كانت في عام 2017 تتعدّى 48 مليون دولار لتُصبح اليوم أقل من 3 ملايين دولار.

(هيثم الموسوي)

كلّ ذلك، لا يُحرّك دولة بأمّها وأبيها عن إنقاذ هذا القطاع حتى يعود إلى مراكمة الإيرادات كما كان سابقاً، ولتغطية جزء من العجز الحاصل. بل صار واضحاً أنّ الدولة تعمل لإرضاء الشركات الخاصة المُستفيدة من خدمات «أوجيرو»، فيما تفريغ القطاع العام لن يعود أصلاً بالربح إلا على «الحيتان الخاصة» التي تنتظر سقوط الهيكل حتّى تتمكّن من الانقضاض عليه. إنّها الدوامة نفسها في كل القطاعات والتي تصل في نهايتها إلى الحلم الذي يتمنّاه معظم المسؤولين في الدولة اللبنانيّة: الخصخصة. فقد بات واضحاً أنّ نهاية «فيلم أوجيرو» هي ضربه وتركه يتهاوى أكثر فأكثر حتّى تتمكّن الشركات الخاصة من «ابتلاعه»، وإلا لما كان حلّ إضراب نقابة موظفي «أوجيرو» متوقّفاً بتعنّت وزير الاتصالات جوني قرم في رفضه التفاوض مع النقابة «تحت الضغط»، فيما يصرّ الموظفون على عدم فكّ الإضراب إلا بعد تلبية المطالب، أو على الأقل نيْلهم الوعد بخريطة طريق تنفّذ خلال مهلة زمنيّة مُحدّدة.
هذه «الدويخة» تُعطّل السنترالات الفرعيّة وتُهدّد السنترالات الرئيسيّة بالتوقف قريباً في حال قرّر الموظفون التراجع عن قرار «حُسن النيّة» القاضي بتشغيل السنترالات الرئيسيّة، ومع ذلك، فإنّ الدولة تتفرّج على التعنّت والتعنّت المُضاد، وكأنّه أمر لا يعنيها. صحيح أن وساطة يقودها كريديّة، محاولاً تدوير الزوايا بين الطرفين، قد تصل إلى نتيجة خلال السّاعات المقبلة، ولكن ما قامت به إدارة «أوجيرو» وموظفوها يختصر ما يحدث في القطاع الذي يحتضر على البطيء، إذ حضّر هؤلاء ليل أمس، محاضر تمهيداً لتسليم وزارة الاتصالات اليوم 250 سنترالاً، على أن تتدبّر الأخيرة أمورها وصيانتها لهذه السنترالات وتشغيلها، مع إبقاء الموظفين على إضرابهم!
إذاً، تُسلّم «أوجيرو» مفاتيح أبوابها إلى مسؤولين ينتظرون «من الله» التخلّص من أعباء استمراريتها باتباعها عملية «الموت الرحيم». ولذلك، ربّما، يُدير المسؤولون ظهرهم إلى مطالب نقابة «أوجيرو» التي يعمل موظفوها باللحم الحي لإنتاج الخدمات، وفوقها صيانة القطاع وتأمين الكهرباء عبر مولّدات «أكل الدهر عليها وشرب». منطق الأرباح بالنسبة إلى الدولة مفقودٌ، هي التي تقصّدت «وأد» مشروع «فايبر أوبتيك» بسبب تمنّعها عن دفع 100 مليون دولار مقابل أكثر من 22 مليار دولار أنفقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على أمور نافعة وغير نافعة. وهي الدولة نفسها التي يرفض فيها وزير الماليّة يوسف الخليل، أن «يجرّ قلمه» حتى «يُحرّر» جزءاً من الأموال المخصّصة لتشغيل القطاع ورواتب الموظفين، تماماً كما يرفض فيها وزراؤها تنفيذ المراسيم والقرارات الصادرة وعن مجلس الوزراء.
منح أوجيرو استقلاليتها المادية والمعنوية، هو أحد الحلول التي تُخرج «أوجيرو» من أزمتها، بالإضافة إلى زيادة التعرفة على الخدمات كما حصل في قطاع الكهرباء، على حد تعبير كريديّة، الذي يرى أنّ حجم «الاستلشاق» في هذا القطاع من قبل المسؤولين يعكس لديه تخوّفاً من إمكانيّة تدميره، «بغض النظر عمن سيستفيد من هذا الأمر، على اعتبار أن هناك مستفيداً ينتظر ليتغذّى على جثث القطاعات».
محاضر من «أوجيرو» بتسليم 250 سنترالاً تابعاً لها إلى وزارة الاتصالات


هذا أيضاً ما يراه موظفو «أوجيرو» الذين لاحظوا حجم التفاوت في نظرة القرم بين موظفي «أوجيرو» وموظفي شركتَي الخلوي «تاتش» و«ألفا»، حينما رفض تحسين أجور موظفي «أوجيرو»، وطالب في الوقت عينه بتحسين رواتب موظفي «تاتش»! كما توقّف هؤلاء عند حادثة توقّف سنترال رأس النبع عن العمل منذ يومين، حينما فصلت عن الشبكة أكثر من 8 سنترالات فرعيّة (صور، الزلقا، بعلبك، شتورا..)، ولكن قرّر الوزير القرم ومعه أحد مستشاري كريديّة (من دون علم كريديّة) النزول إلى الأرض والإشراف بنفسه على عمليّة صيانة السنترال وتعبئة أحد مولّداته بالمازوت. وتقول الرواية، التي يتناقلها الموظفون، إن الرجل لم يُحاول حتى التفاوض مع الموظفين بل استعاض عنهم بخدمات شركة خاصة هي Power tech المتعاقدة مع شركة «تاتش» في عقد يشوبه الكثير من الشكوك، غير عابئ بمحاذير هذه الخطوة إن كان من الناحية الأمنية أو المادية في حال حصول أيّ خطأ في الصيانة.
كلّ هذا يولّد خشية لدى الموظفين بأن هناك من «يقامر» بقطاع حيوي ومنتج خدمةً لمصالح الشركات الخاصة، إذ إنّ المسؤولين هم أنفسهم أصحاب الشركات الخاصة، وإلّا لما كانت مطالبهم قد طارت مع «باقة» تحسين الرواتب التي كانت مقرّرة في جلسة مجلس الوزراء التي لم تنعقد، وما كان الوزراء ليتعاملوا معهم وكأنّهم ليسوا مندرجين على لائحة الأولويّات.
وعليه، يعتقد هؤلاء أنّ الأجواء الإيجابيّة التي سيطرت على اجتماعات مع بعض المسؤولين منذ يومين والاتفاق على خريطة طريق لرفع بدل الإنتاجيّة وبدل النقل، طارت لأنّهم تجرّأوا في الورقة التي قدّموها لرفع عائدات «أوجيرو»، على «المسّ» بأرباح «حيتان الإنترنت» (DSPs) برفع تسعيرة الـ E1 وعائدات شركتَي الخلوي برفع تعرفة الميغا التي تُباع لهم.



الشركات الخاصة تنهب 10 دولارات على الجيغا
تشير المعلومات إلى أنّ شركتَي الخلوي تشتريان من «أوجيرو» 80 جيغا مقابل 60 ألف ليرة لبنانيّة (أي حوالي نصف دولار)، وتبيعان كلّ 10 جيغا بـ 11 دولاراً. أي أنهما تربحان أكثر من 10 دولارات في كل عملية. والأمر نفسه يحصل مع شركات الإنترنت (DSPs) التي تشتري كل خط E1 بـ 475 ألف ليرة، بحسب أحدث تسعيرة طالب بها وزير الاتصالات جوني قرم، وتؤجّره إلى موزّعي الأحياء (ESPs) الذين يضعون أكثر من 50 مشتركاً على الخط نفسه مقابل 10 إلى 15 دولاراً أميركياً عن كل مشترك!