مضَى أكثر مِن عام ونصف منذُ إبلاغ السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، قراراً من إدارتها بمساعدة لبنان في قطاع الكهرباء (استجرار الكهرباء من الأردن، واستيراد الغاز من مصر لتشغيل معامل الكهرباء في لبنان وزيادة الإنتاج). أتى ذلك القرار إثر إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله «انطلاق السفينة الأولى المحمّلة بالمشتقات النفطية من إيران، لكسر الحصار». وحتى الآن، لم يترجم القرار الأميركي، لا لناحية إصدار الإدارة الأميركية استثناءات لمصر من «قانون قيصر»، ولا لجهة صدور الموافقة من البنك الدولي على تمويل ثمن الغاز. بالعكس، تلقّى لبنان رسالة واضحة من مسؤول البنك الدولي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فريد بلحاج، بأن هذا الأمر انتهى. قالها في لقاء رسمي عقد في نهاية كانون الثاني 2023 في واشنطن، مع نائب رئيس الحكومة الياس بو صعب الذي كان يرافقه النواب: نعمة افرام، ومارك ضوّ، وياسين ياسين.إذاً، على رغم كل ما سُرّب عن بدء العدّ العكسي لمسار تنفيذ الخطة التي وُضِعت على السكة منذ شهر آب 2021، ووصول إشارات إيجابية من البنك الدولي الذي يفترض أنه سيمنح لبنان قرضاً لتمويل ثمن الغاز وإصلاح خطوط نقل الكهرباء وتقويتها والصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز، فضلاً عن إشاعات صدور استثناءات من قانون قيصر، إلا أنه تبيّن في النهاية أن البنك الدولي والإدارة الأميركية يكذبان. فقد أشاعا انطباعاً أن البنك الدولي سيلعب دور «المُسعِف» للقطاع المتعثّر، بإيعاز من الإدارة الأميركية، وأن الأمر متوقف على شروط يفترض بلبنان أن ينفّذها مثل تعيين الهيئة الناظمة للاتصالات، والتدقيق في حسابات كهرباء لبنان، وتصحيح تعرفة الكهرباء للمشتركين... في حقيقة الأمر، كان الانطباع مُزوراً؛ فالطرفان متفقان على الانتقام السياسي من خلال منع لبنان من تنفيذ أي مشروع يكسر الحصار الأميركي عليه، على قاعدة أن لا شيء مجاناً.
فقد تبيّن أن قرار تمويل ثمن شحنات الغاز لا ينتظِر أي إصلاحات، كما يدّعي البنك الدولي. وبحسب محضر اللقاء بين بو صعب وبلحاج، فإن هذا الأخير نعى المشروع، وأبلغ بو صعب أنه طلب من وزير الطاقة وليد فياض إعلان نهاية المشروع للشعب اللبناني. وأشار بلحاج، إلى أنه كان واضحاً مع «الرئيس ميقاتي بأن الجدول الزمني، وما قامَ به وزير الطاقة لم يكُن كافياً بالنسبة إلينا». وردّ بلحاج على الكلام التشكيكي بنوايا البنك الدولي لجهة إقراض لبنان لشراء الغاز، مشيراً إلى أن «لبنان لم يستجب لكل مطالبات البنك الدولي منذ عام 2002 لجهة القيام بإصلاحات في قطاع الكهرباء، وحتى الآن لا توجد خطّة جديّة لتنفيذ ما هو مطلوب»، معتبراً أن «وزير الطاقة بتصريحاته وخطاباته في هذا الشأن لا يخدم مصداقية لبنان»، لكنه لم يغفل تقديم إشارات سياسية واضحة، إذ قال: «لا نرى أي ديناميات جديّة لوضع الهيئة الناظمة موضع التنفيذ، إنما كلام ووعود، وقد قلنا للمسؤولين إن المشروع غير قابل للحياة، بالتالي يجب أن نقوم بمشاريع جديدة في لبنان تتعلق بالطاقة البديلة. وأنه يُمكن العمل على ذلك من خلال رصد أموال للعام المقبل، لأن الأموال المرصودة لهذا العام موزّعة على مشروعين مرتبطين بشبكة الأمان الاجتماعي والأمن الغذائي». وقد نعى بلحاج المشروع قائلاً: «لا يبقى إلا إعلان انتهاء هذا المشروع، وعلى وزير الطاقة أن يعلِن ذلك للشعب اللبناني وليس البنك الدولي».
وحده بو صعب كانَ صريحاً في نقل هذا الواقع، ولو أنه حرص على «تجميله» بالإشارة إلى أن «قرض التمويل مجمّد». وبعد عودته من الزيارة إلى أميركا، قال في حديث لتلفزيون الميادين: «البنك الدولي أبلغنا بأنّ القرض الذي كان ينتظر تخصيصه للبنان من أجل تحسين التغذية الكهربائية فيه غير مطروح في موازنته الحالية»، لافتاً إلى وجود «قطبة مخفيّة». على رغم ذلك تعرّض بو صعب للانتقادات من ميقاتي الذي تساءل عن تدخّل بو صعب بهذا الملف، واصفاً الأمر بـ «التفشيخ». يومها اكتفى بو صعب بالرد: «فشختو أطول».
البنك الدولي لمسؤولين لبنانيين: «صارحوا شعبكم»


إذاً، لا طائل من الرهان على البنك الدولي. منذ زيارة بو صعب، لم يخرج وزير الطاقة ولا أي مسؤول رسمي في لبنان يعلِن «الترحّم» على المشروع. لكن يبدو أن الحفاظ على علاقات ديبلوماسية تتفوق على مصارحة الشعب اللبناني. وفي انتظار أن «يتجرأ» أحد المسؤولين الرسميين على مصارحة الناس ونعي المشروع، وإعلان الأسباب الحقيقية التي منعت ذلك، يُمكن القول إن معظم الذين شاركوا في حفلة «التبجيل والمراهنة» لن تكون لديهم أجوبة نهائية وصحيحة على أكثرية الأسئلة المطروحة عن أسباب قرار الجهة الدولية التراجع عن تمويل المشروع. وليس هناك أي حجّة يمكن أن تغطّي وقوف هؤلاء على النقيض تماماً من أي خطة إصلاحية في قطاع الكهرباء. لكن في الوقت نفسه لا حاجة للتدقيق، في أن كل ما حصل من ممارسات دولية وتسويف لا دلالة له سوى استمرار الولايات المتحدة في منع كل الحلول المتعلقة بقطاع الطاقة، كأحد سبل الضغط وتوطيد الحصار على لبنان وإخضاع شعبه لتحقيق أهداف سياسية، وقد حرص «اللوبي الأميركي» في البلد على إنكار الفكرة وتسخيفها وتفريغها.
إنما في الواقع، المسألة الأساسية تتعلق بالكذب الذي يمارسه البنك الدولي والولايات المتحدة. فهما يزعمان بأن الأعمال الإغاثية وحدها مستثناة من قانون قيصر، لذا لا يمكن أن تقوم مصر ببيع الغاز للبنان بلا هذا الاستثناء طالما أن خطّ الغاز يمرّ في الأراضي السورية. بلحاج كان أكثر صدقاً في التعبير عن الجوانب السياسية لفرملة التمويل، إذ أشار إلى: «جوانب تتعلق بالقضايا الجيوسياسية لخطّ الأنابيب بسبب مروره في سوريا، ولا يُمكِن أن نلتزم من دون أن نأخذها في الاعتبار».



اتفاقيتان بلا تنفيذ
في مطلع 2022، وقع لبنان اتفاقية استجرار الكهرباء من الأردن لتأمين استجرار نحو 150 ميغاوات تغذية كهرباء من منتصف الليل حتى السادسة صباحاً، و250 ميغاوات خلال بقية أوقات النهار، بكلفة 200 مليون دولار. وبعد نحو 5 أشهر، وقّع لبنان اتفاقية مع مصر لاستيراد 650 مليون متر مكعب من الغاز تحصل سوريا منها على 8% باعتبارها حصّتها من مرور خطّ الغاز عبر أراضيها، علماً بأن ما سيحصل عليه لبنان يكفي لإنتاج 400 ميغاوات، إلا أن الاتفاق لم ينفذ لأن مصر ما زالت تحاول الحصول على تأكيدات بأن هذه الاتفاقية مستثناة من العقوبات الغربية المفروضة على سوريا (قانون قيصر)، بينما لبنان ينتظر أن يحصل على موافقة البنك الدولي من أجل إقراض لبنان لتمويل شراء الغاز.