نعيش، في البلد، كما لو أننا هانئون، وكما لو أننا لا نملك غير الكلام ولا فعل. واللافت والغريب أنه الكلام الفارغ إياه، ذاك الذي أراد له صانعوه، أو الزاعقون به، ذات «تشرين» لبناني مغدور، أن يؤخّر لا أن يقدّم. ولقد نجحوا حيث فشل الآخرون. فكان أن كوفئ بعضهم، المحظوظ، بإيصاله إلى «المسرح» الواقع في ساحة النجمة، التابع إدارياً وسياسياً... وحتى عقارياً لجمهورية «عين التينة». وبعضهم الآخر - من رفاقهم وصحبهم - الأقل حظاً، عُوِّضوا بتقديمهم إلى حيث لا ينقطع تهاطل «الفريش دولار» لا من فوق ولا من تحت. وهم، أي هؤلاء وأولئك، في نعيمهم الطارئ الذي من أجله ثاروا وتظاهروا وهتفوا وباعوا واشتروا سادرون.نعيش، في البلد، كما لو أننا هانئون، وكما لو أننا في واقع آخر غير الواقع المأسوي المدبّر الذي نال من أساسات عيشنا وبديهياته. نعيش، في البلد المسروق من لصوص السياسة ومرتزقتها، وتجار الثقافة وقوّاديها، وسماسرة الاقتصاد ومرابيه، كما لو أننا لا نملك غير التسليم. وبدلاً من الانتفاض، أو أقله الاعتراض ورفع الصوت، ترانا غير آبهين، بل ومستغرقين في ما يشبه الغيبوبة غافلين ومستغفلين. لكأنها (الغيبوبة) رياضتنا الوطنية الجديدة، نمارسها باستمتاع مازوشي لا مثيل له، وبتفوّق لم يحسب حسابه لنا. فبعضنا صار يستعذب الضعف ويوغل فيه، وبعضنا الآخر بات يستطيب الإذلال على أبواب المصارف، وبعضنا الثالث على أبواب «المسؤولين» من التابعين المحليين أو الدوليين، وبعضنا الرابع على أبواب العصبيات والضغائن والأحقاد. وكل ذلك، من غير أدنى شعور بالمسؤولية أو الواجب. بل إننا، عوضاً عن ذلك، نواصل ما اعتدناه من عجز، أو ألفناه من هوان. ثابتون في ذلك ثبات «الرسالة» المزعومة، لا تهزّنا كارثة أطاحت مقوّمات الوجود البسيط، ولا يعنينا انهيار نال من «أمان» المجتمع وأمنه. بل، ترانا، مندفعين، نتابع سيرة التواطؤ السابق نفسه غير مدركين لدوره في وصولنا إلى هذا القاع. لكن، وبدلاً من الاتّعاظ، ها نحن نتابع على المنوال نفسه. وكأن لا شأن لنا بما أصابنا من إفقار محسوب بدقة، وعوز مدروس بإحكام. والجميع، كل في معزله أو معتزله، يكرّر ويكرّر ويكرّر... الأهازيج السقيمة إياها تلك التي يبثها «إعلام» كارتيل العائلات الثلاث بهدف التعتيم على «رسالة» تعزيز المنهوبات وتعظيمها وتجهيل مرتكبيها.
لم يسبق للجريمة أن كانت بهذا الكمال ولا حصل أن كانت بهذا التمادي الزمني المستمرة فصوله: جريمة ولا مجرم!
فبإزاء الزلزال الذي أوقع بالبلد، وهزّاته الارتدادية المستمرة بفعل الحاكمين إياهم ورعايتهم، ترانا نستعيض عن الفعل، وهو، بالمناسبة، أقلّ ما يتطلّبه الحال الذي صرنا إليه، بتكرار الأقوال البليدة ذاتها. بل إننا من شدّة التكرار المصحوب بالنعوت والأوصاف، وكثرته أن صار حقيقتنا شبه الوحيدة. فلا المجرم بمجرم ولا السارق بسارق ولا حتى العميل بعميل. وصار كل شيء يتساوى مع نقيضه.
تشكل اللجان لا لتجتمع ولا لتقرر. وإذا اجتمعت وقررت فلمصلحة تمرير المشاريع الخاصة لأعضائها أو المتفق عليها بين زعاماتهم. تتخذ القرارات التي لا تنفذ، وإذا حدث وفرضت خلافات التحاصص تنفيذها فلكي تشوّه وتحرّف... تطلق الوعود. تعلن العهود. ترشق الاتهامات. وكل ذلك من ضمن فواصل المسرحية ذاتها التي روّج لها تحالف اللصوص من «رجال الأعمال» وأمراء الحروب. وهي المسرحية التي حطمت إيراداتها الأرقام المسجلة عالمياً وتواصل تقديم عروضها بنجاح باهر. والهدف الذي لا هدف غيره، بعد إلهاء الناس وصرف الأنظار وتشتيتها، الاستمرار في السلطة. فالمهم هو حماية اللصوص المعروفين بالأسماء والألقاب والعناوين، والذين يقبضون على مفاصل البلد، كل البلد، بأيد من حديد ونار وعصبيات طائفية ومذهبية ومناطقية... وذلك ضمن نظام محاصصة مافيوي يشمل السلطات القائمة كلها. لأن شأن الاقتراب منهم أو الإشارة إليهم، على ما يهدد إعلامهم، والناطقين باسمهم، أن يشل البلد المشلول، وأن يفتح الوضع على استدعاء الحروب والفتن والصراعات القبلية. والتي هي في الأصل لا وجود لها إلا في العقول المريضة والقلوب الميتة.
متى نرتقي من الكلام وعبثه إلى الفعل وجدواه. فالفعل وحده هو الذي يكفل لنا ولمن بعدنا أن يظفر باستعادة الحقوق التي أضعناها نتيجة للأنانيات وتصديقنا لأكاذيب الكلام البليد كبديل من الفعل الذي لا يمكن أن يكون له بديل مهما حسنت النيات.
إن أول الفعل يكمن في أن نكسر مع ثنائية «تشرين» والسلطة المستحكمة، والتي كانت من أسباب تمكن السلطة برجالاتها ونسائها وجمعياتها من الإفلات من مصيرها الأسود، قبل العودة واستئنافهم للألاعيب نفسها التي قادت البلد نحو الانهيار. قد تكون المهمة صعبة، لكنها المهمة الوحيدة الجديرة بالنضال. أما النجاح فيها فيتطلب من القوى الحريصة على الناس، وهي بخلاف الشائع، غير قليلة، التضافر في ما بينها، والمسارعة إلى أداء دورها الذي يناديها. وإلّا فإن البديل سيكون في استمرار أداء الممثل المتطاوس إبراهيم كنعان دور البطولة في المسرحية المسمومة إياها إلى جانب رياض سلامة وسليم صفير... ومساهمة مستغربة بالغة الثانوية من وزير المال بصفته الكومبارس الجديد... أما التوقيع فللمخرج المخضرم إياه صاحب المطرقة الخشبية.