أدارت السلطة وجهها عن تداعيات الانهيار، متخففةً من مهمة إدارة الأزمة. فملأت الفوضى هذا الفراغ، وفرضت أحكامها على حياة اللبنانيين بكل مفاصلها. تقلّبت أسعار كل شيء تقريباً من دون ضوابط، حتى رسوم كتاب العدل لم تنتظر المشرّع ليعدّلها. ارتفعت وتفاوتت نسبياً بين كاتب عدلٍ وآخر، متخطية السعر المقر قانوناً. ووجد بعض كتاب العدل أن من حقّهم استيفاء أتعابهم بالدولار!قبل أيامٍ أثيرت ضجّة حول جدول يحدد تكاليف المعاملات التي تنجز لدى كتاب العدل بالدولار الفريش أو ما يوازيه بالليرة وفق سعر السوق في حينها (40 ألف ليرة). الجميع تبرّأ من الجدول، مجلس كتاب العدل وكذلك تجمعات الكتاب في المناطق. لكن رئيس المجلس ناجي الخازن، يؤكّد أن «من أعدّه ملمّ بالمهنة وتفاصيلها». وهو كان قد تناهى إلى مسمعه أن عدداً من كتاب العدل يعتمدون التسعير بالدولار أو ما يوازيه في السوق السوداء. ما يقود إلى التفسير بأن الجدول ليس من اختراع الخيال، إنما يعكس واقعاً قائماً، وإن لم يصدر عن جهة رسمية. يؤكّد ذلك كلام الخازن عن أن كتاب العدل منذ مدة «توقفوا عن استيفاء الرسوم والأتعاب كما هي مقرّة، لكن غالبيتهم لا يشترطون الدفع بالدولار، وإن حصل ذلك في بعض الحالات، فهو مفهوم». يبرر الخازن تحديد «الأتعاب» لا «الرسوم» بالدولار. وهو هامش اللعب الذي يجد فيه كتاب العدل «متنفساً» لتعويض الفرق بين السعر الرسمي الملزمين به وسعر السوق المتحكم بالمعيشة. انعكاس ذلك على تكاليف المعاملات على سبيل المثال لا الحصر: الوكالة الخاصة ارتفعت كلفتها من 30 ألفاً إلى 250 ألفاً، أما الوكالة العامة فمن 80 ألفاً إلى 400 ألف، أما عقد البيع فهو المعاملة الأغلى، وقد تصل كلفته إلى حدود الملايين. إلى ذلك جاء تعديل وزارة المالية لطريقة احتساب رسم الطابع المالي على العقود المتضمّنة مبلغاً من المال ليزيد من الأعباء على أصحاب المعاملات. وبعد أن كان حتى ما قبل 15 تشرين الثاني يحتسب على سعر 1507 ليرات، بات بعد هذا التاريخ يستوفى وفقاً لسعر منصة «صيرفة»، وبنسبة معيّنة من قيمة العقد تحددها القوانين تبعاً لنوع كل عقد. على سبيل المثال عقد تحويل تأمين بقيمة 11 مليون دولار، قدّرت وزارة المالية رسم الطابع المالي المتوجب عليه بمليار و333 مليون ليرة.
من خلال إنجازهم للمعاملات، يجبي كتّاب العدل الرسوم لمصلحة خزينة الدولة ونقابة المحامين، فضلاً عن «بدل أعمال الطباعة والتحرير» التي يقومون بها. الرسوم أقرّت بقانون ولا تعدّل إلا بالطريقة نفسها. ولما تنصّل المشرّع اللبناني من دوره في إجراء التعديل اللازم لتتلاءم مداخيلهم ومستويات التضخم بأكلاف المعيشة، بادر هؤلاء إلى تنظيم أمورهم بنفسهم. في مخالفة واضحة للقانون باعترافهم. بالمقابل يتحصنون خلف أسبابٍ موجبة، تتمثّل بارتفاع الأكلاف التشغيلية، التي تدفع بالدولار أو ما يوازيه على سعر السوق الحرة، كإيجارات المكاتب، وفاتورة اشتراك الكهرباء وثمن المحابر والورق وصيانة آلات الطبع... وما إلى هنالك من نفقاتٍ تشغيلية.
بالتجربة، لا يمكن التعويل على التدخّل الرسمي لضبط الأمور، علماً أن المستند الرسمي الذي ينجزه كاتب العدل يعدّ خدمة عامة. إلا إذا ما قررت وزارة العدل أو مجلس النواب كسر القاعدة.