كان مرجّحاً أن ترفض المحكمة العليا الإسرائيلية الطعون في الاتفاق على الترسيم البحري مع لبنان، معطيةً الضوء الأخضر لتنفيذه. وهذا الترجيح لم يكن ينبع من اقتناع راسخ بأن الاتفاق مُحصَّن من الناحية القانونية، بل العكس هو الصحيح. إذ كان ممكناً، في ظروف أخرى، الطعن في شرعية صلاحية حكومة انتقالية للمصادقة على اتفاق ينطوي على أبعاد استراتيجية، والأهم أن ذلك يجري عشية انتخابات عامة.لذلك، من أهم الأسئلة التي سعت المستشارة القانونية للحكومة غالي بهراف مياره إلى الحصول على جواب عنها: ما الذي يمنع تأجيل المصادقة على الاتفاق الى ما بعد الانتخابات وتشكيل حكومة، وخصوصاً أن ذلك لن يستغرق سوى أسابيع؟
ورغم أن مشاركة الكنيست كان يمكن أن تسدّ الثغرة القانونية المتمثلة بمصادقة حكومة انتقالية على الاتفاق عشية الانتخابات، إلا أن المستشارة القانونية للحكومة لم تلزم الحكومة بذلك مع أنها من أنصار هذا الرأي، كما تجاوزته المحكمة العليا، بعدما قدَّم رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان)، اللواء أهارون حليفا، توضيحات للقضاة في جلسة مغلقة، الخميس الماضي، حول الضرورات الأمنية للمصادقة على الاتفاق.
هكذا يتضح أيضاً أن الموافقة على الاتفاق جاءت على خلفيات استراتيجية وأمنية مع نتائج اقتصادية وليس العكس. ولذلك، كان للأجهزة الأمنية دور رئيسي في تأمين الغطاء له، وكانت الخلفيات الأمنية أكثر حضوراً من أيّ اعتبار آخر. وتبدّى ذلك واضحاً في الإجماع التام على ضرورته من كل المؤسسات والأجهزة، الجيش والاستخبارات العسكرية، الموساد والشاباك، إضافة الى وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي. كما تبدّى في اتفاق كل الأجهزة على تقدير مشترك - وهي مسألة نادرة - على أن عدم المصادقة يرفع احتمالات نشوب حرب مع حزب الله. وقد تبلورت هذه التقديرات في جلسات مشاورات تناولت فيها هذه الأجهزة تصميم الحزب وإرادته وقدرته على الذهاب إلى النهاية في منع إسرائيل من استخراج الغاز من حقل «كاريش» وإلى ما بعد بعد كاريش كما أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
ليس من الصعوبة التقدير أن مروحة من الأسئلة والقضايا ذات الصلة حضرت على طاولة النقاش والتشاور لدى الجهات المهنية. أولها، على ما يبدو، تمحور حول عدم وجود أي فرصة لتراجع الحزب عن التزامه أو إمكانية ردعه بالتهويل والرسائل العملياتية. ويُعبِّر ذلك عن نجاح حزب الله وأمينه العام في تصفير إمكانية الرهان على أي خيارات بديلة، وبأنه لا جسور للعودة عن التزام الحزب العلني بمنع استخراج من «كاريش» كمرحلة أولى، في حال عدم رفع الحظر عن حق لبنان بالتنقيب والاستخراج.
ويبدو أيضاً أن خيار الامتناع عن استخراج الغاز من «كاريش» كان مستبعداً لأسباب عدة، أولها أنه يُقوّض صورة إسرائيل وقوة ردعها، ويرتّب أضراراً استراتيجية كبرى في هذا المجال، وتداعيات اقتصادية سلبية انطلاقاً من العقود والمشاريع التي تنتظر استخراج الغاز. والأهم، أيضاً، أن حزب الله لجأ الى تعطيل كاريش باعتبار هذا المنسوب كافياً في الضغط والردع. وإذا ما تبيّن خلاف ذلك، من المؤكد أنه كان سيرتقي في خياراته لتحقيق هذا الهدف الى ما بعد حيفا في حال استنفاد الخيارات البديلة.
كما حضر في هذا المجال، وفق التقارير الإسرائيلية، أن الأجهزة الأمنية عبَّرت عن خشيتها من مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، حيث من المرجح أن يسود فراغ رئاسي، وربما تتطور الأمور أيضاً نحو صراع سياسي داخلي حول من يملك الصلاحيات... ما قد يعرقل عملية التوقيع التي ستقترن بمنع حزب الله من استخراج الغاز من كاريش. وهو السيناريو الذي سيضع حزب الله وإسرائيل أمام مسار صدامي ويرفع من احتمال نشوب مواجهة عسكرية.
الموافقة على الاتفاق جاءت على خلفيات استراتيجية وأمنية مع نتائج اقتصادية وليس العكس


هكذا وجدت إسرائيل نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التسليم بالمعادلة اللبنانية، أو الذهاب إلى مواجهة عسكرية تكون فيها المقاومة رأس الحربة في الدفاع عن ثروات لبنان وشق طريق الإنقاذ من الهاوية التي هوى إليها على المستويين المالي والاقتصادي، مدعوماً بشرعية شعبية واسعة. هذا من دون التطرق الى الأثمان الاستراتيجية الهائلة التي كانت ستدفعها إسرائيل في أمنها القومي. أما بالنسبة إلى لبنان، فإنّ أيّ خسائر وتضحيات كان سيُقدّمها، تبقى أقل مما ينتظره في المستقبل إن لم يتم تغيير الاتجاه الذي يسلكه. وهكذا انهار مفهوم ارتداع حزب الله وخشيته من المواجهة العسكرية مع إسرائيل، كما أكد على ذلك الخبير الإسرائيلي بشؤون الشرق الأوسط، أيال زيسر. على الأقل أصبح هذا الاقتناع راسخاً وجلياً لدى جهات القرار السياسي والأمني في كيان العدو، في القضايا المصيرية التي تتصل بلبنان.
يكشف قرار الجهات القضائية والقانونية، إضافة الى الجيش والأجهزة الأمنية، أنه رغم محاولة التوظيف السياسي والانتخابي لهذا الملف من قبل ينيامين نتنياهو، إلا أن هناك إجماعاً في إسرائيل على مجموعة من الحقائق والتقديرات تتجاوز الانتماءات الأيديولوجية والسياسية والمؤسساتية التي تتصل بتوصيف الكثير من ملامح المشهد في بعدَيه الاستراتيجي والاقتصادي. فالجميع يقرّ بأن تهديد حزب الله هو الذي فرض على إسرائيل ومعها الولايات المتحدة القبول بحصول لبنان على حقوقه في حرية التنقيب والاستخراج، إضافة الى ما حققه على صعيد الترسيم.