يفترض أن يُعرض اتفاق ترسيم الحد البحري بين لبنان و«إسرائيل» للتصويت الحاسم على طاولة الحكومة الإسرائيلية في 26 الجاري، وهو الإجراء الأخير بعد التصويت عليه في المجلس الوزاري المصغر، وبعدما أودع في الكنيست لإطلاع أعضائه عليه، لينتهي مسار المصادقة العملية على الاتفاق من ناحية تل أبيب.في السجالات التي لا تنتهي في لبنان و«إسرائيل»، وإن بمستوى أقل، تغيب واحدة من أهم نتائج الاتفاق المتبلور، وهي الحرب التي كانت احتمالاتها عالية جداً. أحسنت «إسرائيل» الرسمية لنفسها في أنها تجنبت الحرب بتنازلات نسبية عن جزء مما كانت تدّعي أن لها حقاً راسخاً فيه، وكذلك عبر رفع الفيتو الأميركي عن التنقيب عن الغاز في المياه الاقتصادية اللبنانية. لكن، هل تجنبت «إسرائيل» الحرب حقاً؟
ليس السؤال هامشياً، ولا هو في غير وقته، باعتبار أن الطرفين يتجهان لإبرام الاتفاق. بل هو نتيجة طبيعية لتعقيدات مرحلة اليوم الذي يلي المصادقة النهائية، والمرحلة التي تسبق ذلك وإن كانت أياماً فقط. إذ توجد جملة عراقيل تسبق المصادقة في «إسرائيل»، ولا يقين كاملاً إزاءها. وهناك عراقيل ستكون «إسرائيل» معنية بها إن استطاعت، في مرحلة ما بعد التوقيع وبدء التنفيذ وطوال مراحله اللاحقة:
أولاً، لم ينته مسار المصادقة على الاتفاق إسرائيلياً، وإن كان احتمال المصادقة مرتفعاً جداً، مع احتمال مقابل ضئيل جداً. المهلة التي وضعتها تل أبيب لنفسها للمصادقة على الاتفاق هي 28 الجاري، قبل انتخابات الكنيست بأيام، وقبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون. وعلى الحكومة الإسرائيلية أن تجتمع في هذا التاريخ وتصادق على الاتفاق. لكن، هل هذه المصادقة مسلّم بها؟
واحدة من الفرضيات المعقولة، هي وجود وزراء ممن يسعون إلى إرضاء ناخبيهم، من اليمين أو أقصى اليمين في الوسط، قد يتردّدون في اللحظة الأخيرة، عبر التهرب من التصويت أو التصويت ضده.
ثانياً، ينتظر الاتفاق استحقاق قضائي أمام محكمة «العدل» العليا في القدس المحتلة، والتي عليها أن تبتّ في عدد من الالتماسات وردت إليها بادعاء أن ليس لحكومة تصريف الأعمال الحالية صلاحية إبرام اتفاقات خارجية، وإن كان مفهوم تصريف الأعمال في «إسرائيل» أوسع مما هو عليه في دول أخرى. كما أن على المحكمة أن تبتّ في ادعاءات هي موضوع التماسات، حول قدرة الحكومة وحدها على التنازل عن «حدود سيادية» دون موافقة الكنيست أو استفتاء شعبي.
وكما تبين من بنود الاتفاق نفسه، وهو ما أقرّ به رئيس هيئة الأمن القومي في إسرائيل إيال حولتا (صحيفة «إسرائيل اليوم»)، فإن الكيان «سيتنازل» بموجب الاتفاق عن عدة كيلومترات مربعة من «مياهه الإقليمية». والحديث هنا لا يتعلق بالمياه الاقتصادية، حيث السيطرة الإسرائيلية عليها نفعية اقتصادية، بل هي سيادية ضمن المياه الإقليمية نفسها. فهل ترى المحكمة وجوب أن يسري على هذه المنطقة المتنازل عليها ما يمليه القانون الإسرائيلي من إجراءات للتخلي عن أرض سيادية؟
مهمة المحكمة غير سهلة. وإن كان الترجيح أن تجد ما يمكنها من تجاوز الإجراءات القانونية، على خلفية أن مصالح الدولة الأمنية، كما تؤكد الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية على اختلافها، تقتضي الاتفاق مع الجانب اللبناني. وكما وضعت الأجهزة الأمنية وزراء الحكومة أمام خيارين: حرب في مواجهة حزب الله أو اتفاق مع أثمان اقتصادية، فإنها ستكون معنية بأن تضع الخيارين أمام المحكمة، علماً أن إلزام الحكومة بالتصويت على الاتفاق في الكنيست يقتضي إقناع 80 عضواً من أصل 120، وهو ما يعدّ متعذّراً كما يبدو من السجالات الدائرة. فهل تختار المحكمة الحرب أو الاتفاق؟
ما أدى إلى الاتفاق هو تهديد حزب الله وما سيجبر إسرائيل على تنفيذه هو استمرار هذا التهديد


ثالثاً، في اليوم الذي يلي المصادقة على اتفاق الحد البحري، في حال حدث، ستكون اليد على الزناد في لبنان من دون تردد في الذهاب بعيداً في مرحلة تنفيذ الاتفاق، وخصوصاً أن إسرائيل بدأت استخراج الغاز من «كاريش»، وعمدت إلى إجراءات بناءً على معطيات وتقديرات مغلوطة عن نيات حزب الله وإرادته الفعلية باللجوء (أو عدم اللجوء) إلى القوة العسكرية في مرحلة ما بعد التوقيع على الاتفاق. فإذا امتنعت «إسرائيل» عن تنفيذ التزاماتها، نتيجة سوء تقدير، أو عرقلت كلياً أو جزئياً تمكين لبنان من حقوقه، وبما ينسحب كذلك على الجانب الأميركي، الوسيط اسمياً، فسيكون على حزب الله أن يتدخّل لحماية الاتفاق وحسن تنفيذه، تماماً كما تدخّل للدفع نحو بلورته والمصادقة عليه.
رابعاً، مرحلة ما سيلي ومآل إسرائيل السياسي وهوية من يترأس الحكومة المقبلة. إذ سبق لرئيس المعارضة، بنيامين نتنياهو، أن تحدث عن إمكان التنصل من الاتفاق لأنه «رضوخ لإملاءات حزب الله». ورغم أنه لم يكرر التهديد بالتنصل، والتقديرات بأنه سينظر الى الاتفاق من على كرسيّ رئاسة الحكومة بغير ما كان ينظر إليه خارجها، إلا أن الفرضيات كلها، مع تقلص احتمالاتها، لا تلغى.
المعادلة التي تحكم أفعال العدو، في مواصلة الالتزام بموجبات الاتفاق، تماماً كما هي المعادلة التي تحكم الوسيط الأميركي الذي تحوّل إلى كفيل تنفيذ لدى الجانبين، مع انزياح دائم للجانب الإسرائيلي، تبقى كما هي من دون تغيير، وإن كان إمكان تغييرها يأتي فقط وفقاً لتغير محركها الرئيسيّ: قوة حزب الله وإرادة استخدامه لهذه القوة.
ما أوجد الاتفاق، إلى جانب عوامل أخرى مساعدة، هو تهديد حزب الله. وما دفع ويدفع إلى المصادقة عليه سيكون تهديد حزب الله. لكن أيضاً، وهو الأهم، ما سيدفع العدو، كما الراعي الأميركي، إلى البدء بتنفيذ الاتفاق ومن ثم الاستمرار في تنفيذه، سيكون - بداهة - تهديد حزب الله. ومعنى كل ذلك أن بقاء القدرة المادية لدى حزب الله على الإضرار بمنشآت إسرائيل الغازية، وأيضاً بقاء الإرادة والقرار باللجوء إلى استخدام هذه القدرة على حاله، سيبقي موجبات الطرف الآخر، أو الطرفين (الإسرائيلي والأميركي) قابلة للتنفيذ.
هذه المعادلة هي التي تحكم القرارات في إسرائيل والولايات المتحدة، وإن تراجعت، فسيعود الحال إلى ما كان عليه. مع أو من دون اتفاق. وفي ذلك، إشارة إلى الآتي:
ما كانت إسرائيل لتتنازل عن مياه «سيادية» أو عن مناطق اقتصادية خاصة، وعن عوائد اقتصادية، إلا لأن التقدير لدى كل الأجهزة الأمنية بأن حزب الله سيلجأ إلى القوة العسكرية ما لم يتحقق اتفاق يراعي المطالب اللبنانية. بمعنى آخر: لو لم تكن لدى حزب الله نية وإرادة وقرار بتفعيل قدراته، ما كان الاتفاق ليتحقق. وهو ما أكده رئيس الحكومة الإسرائيلية لتعليل قبوله بالاتفاق رغم مساوئه، بالإشارة إلى أن الاتفاق جنّب إسرائيل حرباً. كما أكد قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وإن عبر مصادر، وجزء واسع جداً من الخبراء والمحللين، أن «إسرائيل» لجأت إلى الاتفاق وتخلّت عن عائد اقتصادي و«حق» حدودي كي تتجنب الحرب.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا إن تحوّل التقدير لدى إسرائيل؟ وماذا إن قدرت، بشكل مغلوط أو غير مغلوط، أن حزب الله لم يعد متحفزاً للخيارات العسكرية؟ هل تعيد النظر في موجباتها حتى ولو صادقت على الاتفاق؟ وإذا زال السبب الذي دفعها إلى التراجعـ هل تعيد حساباتها وتتخلّى عن التزاماتها؟
في الموازاة، فإن الطرف الثالث في الاتفاق، وهو من يسمّيه البعض بالوسيط الأميركي، خسر أيضاً عبر الاتفاق استراتيجية الحصار التي يفعلها منذ سنوات ضد لبنان، عبر رفع الفيتو عن التنقيب عن الغاز والنفط في المياه الإقليمية والاقتصادية للبنان. وتماماً كما هي الحال مع القرار الإسرائيلي، إذا قدّر الأميركي، بشكل مغلوط أو غير مغلوط، أن حزب الله لم يعد متحفزاً للخيارات العسكرية، أو أن تغييراً ما طرأ على إرادته، هل يعيد النظر في موجباته وموجبات شريكه الإسرائيلي؟
توثب حزب الله واستمرار قراره في تفعيل قدراته هو ما يحافظ على المصلحة اللبنانية، ما يحتم عليه تعظيم القدرة ومنع المساس بها مع إبقاء يده على الزناد. فهذا ما يكفل بقاء الاتفاق، والبدء في تنفيذه، وفي استمرار هذا التنفيذ.
لإعادة التذكير بالمعادلات التي فرضت الاتفاق، يشار إلى ما ورد أمس في صحيفة هآرتس عن «وزير في الحكومة» أنه «منذ زمن طويل لم يكن هناك تطابق مثلما حصل إزاء الاتفاق مع لبنان، شمل آراء رئيس الأركان ورئيس هيئة الأمن القومي ورئيس الموساد ورئيس الشاباك. بل حتى الذين لم تعجبهم التنازلات الإضافية لرئيس الحكومة يائير لابيد، وكذلك من يعتقد أنه كان بالإمكان تحقيق اتفاق أفضل بقليل، لم يخطر على باله التصويت ضد الاتفاق، وخصوصاً بعدما سمع الاستعراضات واطّلع على المواد الاستخبارية»، التي عرضتها الأجهزة الأمنية على الوزراء ضمن خيارَين: حرب أو اتفاق.