الثابت أن «الوظيفة» تلتصق بشاغلها التصاق الظفر بالإصبع. فالعسكري، كما الإداري، كما القانوني كما المصرفي، كما المربي... تستولي عليه وظيفته، وتطبعه بطابعها. أما حين لا تفعل فلا أقل من أن تلاحقه وتتدخل في صوغ «هويته» الاجتماعية. وللإيضاح، ينبغي القول إن الوظيفة غير المهنة. وما ينطبق على «الوظيفة»، التي نحن بصدد الحديث عنها، لا ينطبق على المهنة. فلكل من الوظيفة أو المهنة آليات اشتغال خاص قد تلتقي حيناً وتفترق أحياناً.والثابت، أيضاً، أن ثمّة بين «الموظفين»، وهم الغالبية الغالبة، بحسب المؤكد سلوكياً، من لا تغادره الوظيفة حتى لو غادرها. ولو لم يكن الأمر كذلك، وهو فعلاً كذلك، لما عانى غير موظف (لا حاجة إلى ذكر الأسماء، وهي أكثر من معروفة) ما عاناه حين قُيّض له، أو لها، الوصول إلى موقع سياسي عام أو خاص. فالموظف يبقى موظفاً ولو صار... وزيراً صاحب توقيع. طبعاً، هناك من ينجح، ولو بعد لأْيٍ، وهم القلة، في التحرّر الفعلي من ثقافة الوظيفة وأثقالها. تلك القائمة، في جوهرها، على الإذعان الكامل لموجبات التسلسل الوظيفي وهرميّته. والتي تفرض، من جملة ما تفرض، التنفيذ الحرفي والدقيق للمَهامّ التي تُسند إليه أو يؤمر بها. فضيق الخيارات هو أول قوانين الوظيفة. وكثيراً ما يحدث أن ترغم شاغلها على القبول بما لا يُقبل به، حتى لو ظهر للمأمور أو المأمورة أنها تتعارض مع القناعات الشخصية أو سلّم المبادئ والقيم ناهيك بالانحيازات السياسية والاجتماعية... لأن من شأن «التمرد» أن يقود صاحبه إلى فقدان مورد العيش وأسباب الحياة. والواقع يقول إن من اعتاد على تلقّي الأوامر وتنفيذها سيبقى كذلك، ولو بلغ أعلى المناصب، كحال «الخديج» العسكري والسياسي والوطني والأخلاقي والمعرفي الذي أمكن له، عبر تسوية «الدوحة» عام 2008، النفاذ إلى الموقع الرسمي الأول، وتالياً تحقيق ما يتناقض مع «مؤهّلاته» البالغة الهزال والتواضع.
ولقد شاءت الظروف المؤسفة أن يكون الصديق (الوزير) يوسف الخليل من بين هؤلاء الذين لم تغادرهم لا الوظيفة التي اختارها ولا موجباتها. وهي الموجبات المركّبة التي قادته، «راضياً مرضياً»، ومن غير «ممانعة» واضحة، لأن يكون واحداً من أقرب موظفي رياض سلامة وأعوانه. أما حين تضافرت «الظروف السيئة» ورشّحته لتولي منصبه الوزاري المتقدم، فالواقع أنه لم يُسعد بهذا «التقدم» الوظيفي لكنه، أيضاً، لم يعترض. وهنا ربما تكمن مشكلة صديقنا الكبيرة خصوصاً حين رفض الأخذ بنصيحة الأصدقاء الذين تطوّعوا وسألوه رفض «المأمورية» السامة. كما لم يصغ سابقاً إلى وجوب الابتعاد عن سلامة والنأي بنفسه عن ارتكاباته الشنيعة. والأرجح أن إغراء الموقع وامتيازاته هي التي منعته من رؤية الأخطار التي تنتظره. فكان أن انتدب نفسه لمجهول - معلوم أوصله إلى حيث هو اليوم. خصوصاً، مع وفرة العناصر المحرّضة على الرفض، والداعية له، وأولها هوية الجهة التي سمّته وصلاتها المعدومة بـ «آداب وقواعد» وأخلاقيات العمل العام، وهي ذات سجل طافح ومثقل بما يتعارض مع ألف باء الخدمة العامة. لكنّ الرجل أبى، يومها، إلا أن يوافق، وكان أن اختار المغامرة، وتالياً، المقامرة بما كان تبقّى له من رصيد، سبق له أن بدّد معظمه على «مائدة» رياض سلامة العامرة بالفساد والإفساد المنظمَين.
وحده جميل السيّد، بثاقب نباهته المثيرة لخشية «خصومه» وغيرة وحسد «أصدقائه»، من أجاد تلخيص المشهد الذي ارتسم عقب ارتضاء الخليل التوقيع على «القرار» الفضيحة.
لقد فعلها «شياطين المال والسياسة»، وأوقعوا بصديقنا يوسف الخليل. لكنّ الأوان ربما لم يفت بعد. وبإمكانه، إن أراد، المسارعة إلى سحب التوقيع الذي «سرقه» منه الشياطين إياهم. بل وردّ الصاع صاعين من خلال الاستقالة الفورية من مَهام المنصب «القذرة».
لقد فُرض على يوسف الخليل الإقدام على خطوة كانت وستبقى من اختصاص غازي وزني الذي أتقن لعب الدور المرسوم له وتفنّن فيه، قبل أن يُستغنى عنه لانتفاء الحاجة التي استدعته.
يبقى الأمل في أن نستعيد صديقاً غدر به «الموقع»، وأخطأ حين قبل به.