ليس جديداً إطلاق قادة العدو العسكريين والأمنيّين مواقف تحريضية ضد حزب الله بسبب موقعه في أولويات الأمن القومي الإسرائيلي. لكن توقيت بعض المواقف ومضمونها يشكّلان مؤشرات على اتجاهات مُحدّدة ويضيئان على مساحة التقاطع بين العدو وعدد من القوى المحلية والإقليمية، كما في موقف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي الذي اتهم فيه حزب الله بمنع «التغيير الإيجابي» في لبنان، في إشارة إلى حجم الآمال المعقودة على الدينامية الداخلية بدفع خارجي. ولا يخفى أنه اتهام يُقر به حزب الله ويعتبره أهم إنجازاته.التقاطع في المفهوم والخطاب بين الموقف الإسرائيلي وبين بعض الداخل في لبنان قد لا يكون مفاجئاً تماماً، إلا أنه يجدر التوقف عندما يصل حدّ التطابق حتى على مستوى التعبير. فقد أتى موقف كوخافي بعد زيارته الأخيرة إلى فرنسا ولقائه نظيره الفرنسي الأدميرال جان فيليب رولان، وقبل ثلاثة أيام من موقف رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي تقاطع مع كوخافي في أكثر من مفهوم، منها أنه «طالما حزب الله موجود لا يمكن أن تقوم الدولة».
وصف قيادة العدو لأي تغيير في لبنان بـ«الإيجابي» يكفي للدلالة على أنه يُجسِّد المصالح والأطماع الإسرائيلية في لبنان بتجريده من قوته (المقاومة) وإنتاج سلطة سياسية تجسد عملياً خيارات إسرائيل والولايات المتحدة في مواجهة المقاومة وعلى المستوى الإقليمي، وبالانضمام إلى قطار التطبيع في المنطقة كتجسيد تام لإطباق الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على مؤسسات القرار السياسي والأمني في لبنان.
وما يُضفي على هذا الموقف خصوصية أيضاً أنه يأتي بعد أيام على إقرار رئيس استخبارات العدو اللواء أهارون حاليفا أنه لولا حزب الله لانضم لبنان إلى اتفاقيات ابراهام للتطبيع، والتي من شروطها إنتاج «الدولة» التي أشار إليها رئيس القوات اللبنانية. ويؤشر كلام كوخافي وحاليفا إلى خلاصة تقدير المؤسسة الإسرائيلية للمرحلة التي شكل فيها الدفع نحو التغيير «الإيجابي» في لبنان هدفاً مباشراً عملت عليه الولايات المتحدة بكل قوتها في السنوات الثلاث الأخيرة، عبر الضغط المالي والاقتصادي.
في المقابل، تكشف هذه المواقف أيضاً نتائج أداء حزب الله الذي كان الحؤول دون هذا التغيير يحتل رأس أولوياته، انطلاقاً من رؤية كانت حاضرة لدى الحزب في وقت مبكر بأن الكثير من الحراك الذي يشهده لبنان هو في الواقع هجوم أميركي - إسرائيلي بأدوات بديلة عن الحرب العسكرية تستهدف المقاومة وإطباق الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على لبنان، وأن الخطورة تكمن في التكامل الذي كان ولا يزال قائماً بين بعض الداخل والخارج في الدفع نحو هذا الاتجاه.
لذلك، حرص حزب الله على ألا يجاري بعض الضغوط التي كانت تطالبه بتبنّي خيارات مُحدَّدة، بعضها كان مغلفاً بمطالب محقة وملحة من حيث المبدأ، فنجح في تجنب السقوط في فخ أشد خطورة من الوضع القائم. فضلاً عن أن شروط تحقيق بعض هذه الشعارات والمطالب لا يزال غير متوفر.
على خط مواز، كان تركيز الحزب على توفير ما يمكن من مقوّمات الصمود، وعلى إفشال الهجمة الأميركية عبر الحؤول دون تحقيق الأهداف التي كانت ولا تزال تطمح إليها، انطلاقاً من الرهان على الوضع المتشكل في الساحة اللبنانية، والذي رأى فيه الأميركيون أرضية ملائمة للانقضاض على المقاومة لتحقيق ما عجزوا عنه في الحروب السابقة.
لذلك، ليس عابراً أن يصدر الإقرار بفشل الرهان الإسرائيلي على الخطة الأميركية على لسان قائد المؤسسة العسكرية لكيان العدو. فهو إقرار يأتي بعدما تبلور الفشل كحقيقة قائمة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة التخلي عن هذه المساعي. ومن أبرز تجليات هذا الفشل إجراء مفاوضات بحرية وفق أسس وقواعد مغايرة تماماً لما سعى إليه الإسرائيلي، باعتراف كبار القادة السياسيين والأمنيين. لكن، قد تكون المشكلة لدى البعض أن إسرائيل تعترف بلسان كبار قادتها بفشل مخططاتها وخياراتها ورهاناتها، وبأن من أفشلها هو المقاومة، في مقابل مكابرة بعض الداخل. ويمكن التقدير أننا سنكون، مرة أخرى، أمام المشهد نفسه كما بعد حرب عام 2006، عندما اعترفت إسرائيل بأنها فشلت في الحرب... فيما أنكر البعض في لبنان ولا يزال انتصار المقاومة. ولتبرير تمسكه بموقفه يضع الاعترافات الإسرائيلية في سياقات غريبة جداً عن واقعها.