لم تتمكّن السلطة السياسيّة من التوصّل إلى اتفاق مع القضاة الذين أعلنوا الاعتكاف منذ أكثر من شهر؛ هي أصلاً لم تحاول ولم تعرض عليهم عرضاً واحداً، معتقدةً أنه بالاعتكاف أو بدونه «البلد ماشي والشغل ماشي». تركت هؤلاء «يقبّعون شوكهم بأيديهم» إلى أن وصل بهم الأمر إلى حدّ قبولهم التوقيع على عريضة تُناشد مصرف لبنان احتساب رواتبهم على سعر 8 آلاف ليرة. بعضهم لم يكن لديه مُشكلة في أن يكون الحل على يد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فيما البعض الآخر عارض بشدّة هذا الأمر. ومع ذلك، ناصرت الأكثريّة الساحقة (نحو 550 قاضیاً) فكرة التوقيع على العريضة التي أعدّها وزير العدل هنري خوري. يبرّر بعض القضاة الأمر على أنّهم تصرّفوا كمعظم الموظفين، بمن فيهم موظفو الدولة، الذين «ينعمون» باحتساب رواتبهم على سعر 8 آلاف ليرة من خلال استخدام «صيرفة». يلفت أحد القضاة إلى أنّ «موقفي معروف من سلامة، وأنا كنتُ من أوائل الأشخاص الذين لاحقوه قضائياً وأصدرت قراراً للحجز على أمواله، لكنني وقّعت على العريضة باعتبار مصرف لبنان مؤسسة رسميّة، ونحن لم نتوجّه إلى الحاكم بل إلى المصرف الذي لا يملكه شخص وإنما هو الذي ينظّم الأحوال المصرفية ويصدر التعاميم الماليّة»، رافضاً «اعتبارها رشوة من سلامة الذي سيصبح القضاء تحت رحمته». ويقول قاضٍ آخر: «أعرف أنها لم تكن أفضل الحلول، لكنني فعلتها لأن الدولة أوصلتنا إلى العوز، وبالتالي بتنا نستجدي الفاسدين حتّى نتمكّن من تأمين احتياجاتنا».
هذه المبررات، التي يسوقها بعض القضاة، لا تُقنع المحامين، بل أضاف هؤلاء «نقطة سوداء» جديدة على سجل القضاة لتزيد من سوء العلاقة بين الطرفين في الفترة الأخيرة. وبدأ بعض المحامين يُجاهرون أنهم بصدد تقديم دعاوى ارتياب مشروع ضد القضاة الذين وقّعوا على العريضة في حال أُحيلت إليهم قضايا تتعلّق بالفساد، ولا سيّما تلك المُقامة ضد سلامة أو حتى في القضايا التي ينظرون بها. لا يتقبّل المحامون كيف أن القضاة عطّلوا قصور العدل وتناسوا الموقوفين المُكدسين في السجون في ظل الأزمة المعيشيّة، وتمسّكوا بحلٍ أتاهم عبر سلامة. بالنسبة إليهم، «هذا ليس تصحيحاً للأجور بقدر ما هو رشوة من سلامة الذي رفض حتى إحياء قراره بقبض القضاة رواتبهم على سعر 8 آلاف ليرة كما فعل في شهر تموز الماضي، بل اشترط أن يكون الطلب ممهوراً بتواقيع أكثر من 200 قاضٍ، فيما القضاة قفزوا أكثر مما اشتهى "الحاكم" لتصل التواقيع على العريضة إلى نحو 550 قاضياً»!
وما إن وافق القضاة على طلب وزارة العدل بالتوقيع على العريضة، «أمطرت» في العدليّات الأموال. الدولارات التي كانت محتجزة تم فكها «بقدرة قادر»، والوعد الذي مُنح للقضاة منذ شهر ونصف شهر بأن يُصرف لهم اعتماد بقيمة 35 مليار ليرة يُحوّل من وزارة الماليّة إلى صندوق التعاضد الخاص بهم، صُرفت بأسرع من البرق وتم تسليم القضاة في اليومين الماضيين شيكات بالدولار الفريش تتراوح بين 500 إلى ألف دولار بحسب درجات كل قاض، على أن توزّع شيكات بمبالغ مماثلة الشهر المقبل، فيما وعد رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود القضاة بأنّه سيُحاول تأمين اعتماد مالي آخر فور صرف جميع المبالغ. كل ذلك أوحى بأن هناك من كان يريد تسليم «رؤوس» القضاة للسلطة السياسية والماليّة لكسر شوكتهم، على حد تعبير أحد القضاة الذي رفض التوقيع على العريضة.

انقسام بين القضاة
وإذا كان القضاة قد تلقّوا وعداً من وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى بألّا يكون الاعتماد محصوراً بشهرين فقط وأنّهم سيقبضون ابتداء من شهر تشرين الأوّل المقبل رواتبهم على سعر 8 آلاف ليرة لبنانيّة، فإنّ الأمر لا يزال في إطار الكلام غير الرسمي. إلا أن هذه الوعود وحدها ما تجعل القضاة يعودون خطوة إلى الوراء بعدما اقتنع كثيرٌ منهم بأنّ قرار اعتكافهم لن يوصل بهم إلى مكانٍ في ظل تعنّت الدولة واتباعها سياسة إدارة الظهر للقضاة. وصاروا مكبّلين، لا هم قادرون على السير إلى الإمام في ظل عدم وجود خطّة جامعة يمكن أن تفتح كوّة في الجدار، كما ليس بإمكانهم أصلاً العودة إلى الخلف من دون نيْلهم مكتسباتٍ ولو ضئيلة حتى يعودوا عن قرارهم «التوقف القسري عن العمل»، على حد قولهم.
يجاهر بعض المحامين بأنهم بصدد تقديم دعاوى ارتياب مشروع ضد القضاة الذين ينظرون بقضايا المودعين ووقّعوا على «عريضة سلامة»


ولذلك، فإنّ مجلس القضاء الأعلى دعا إلى جمعيّة عموميّة تُعقد صباح اليوم في القاعة الكبرى لمحكمة التمييز، بهدف طرح مسألة فك الاعتكاف. بعض القضاة يتفهّمون هذا الأمر على اعتبار أنّ «أسباب توقفنا القسري عن العمل زالت في حال قبض الرواتب على سعر آخر»، فيما قضاة آخرون يقولون: «سيُصدم عبود بردّة فعلنا لأننا لن نتزحزح قيد أنملة عن اعتكافنا طالما أننا لم ننل حقوقنا بعد، وكل ما يُقال عن زيادة الرواتب هو في إطار الوعود ليس إلّا». وفي كلتا الحالتين، فإن المشهد في قصر عدل بيروت اليوم سينتهي على الأرجح بإشكالٍ سيحصل داخل الجمعيّة، قبل أن يحدث الانقسام بين القضاة الذين سيعمد معظمهم إلى فك الإضراب، فيما ستتمسّك الأقليّة بموقفها.
وفي سياق متصل، عقد نادي القضاة مؤتمراً صحافياً أمس في نادي الصحافة، فيما يشير رئيس النادي القاضي فيصل مكي إلى أن المؤتمر الصحافي والجمعيّة العموميّة غير مرتبطين ببعضهما البعض. وبينما كان الحاضرون ينتظرون أن يُعلن النادي ثورة إلى حين تحقيق استقلاليّة القضاء، لم يُقدّم النادي خطة عمل للمرحلة المقبلة، بل كان هدف اللقاء هو «تبييض صفحة» القضاة أمام العموم وتوضيح بعض الالتباسات كعرقلة بعض القرارات القضائية ووجود بعض القضاة في مواقع مهمّة تتأثر بالسلطة السياسيّة، بهدف إعادة ثقة المواطنين بالسلطة القضائية.
وطالبت الهيئة الإدارية للنادي بـ«رفع اليد عن القضاء وإصدار قانون يؤمن الاستقلالية القضائية، وإلغاء الحصانات التي تعيق محاسبة الفاسدين، ورفع السرية المصرفية في بعض القضايا المرتبطة بالفساد، وتفعيل هيئة التفتيش القضائي، وتنقية القضاء، وإلغاء الطائفية السياسيّة وإعادة الثقة بالقضاء».