ظلت ذكرى 13 تشرين الأول، بالنسبة الى التيار الوطني الحر لسنوات سبقت عودة العماد ميشال عون من المنفى، ذكرى مريرة عن العبور بين مرحلة حرب الإلغاء والتحرير، الى مرحلة السيطرة السورية ونفي عون الى باريس. بعد عام 2005، تحولت الذكرى الى شيء آخر. مزيج من مراجعة «غير نقدية» للماضي ورسم المستقبل مع النظام السوري والعلاقة المستجدة المفتوحة مع دمشق التي زارها عون، تحت سقف معاداة سوريا في لبنان ووقف معاداتها بعد خروجها، ووعد رئيس التيار جبران باسيل بزيارتها مرة أخرى. ولم تعد ذكرى خروج عون من بعبدا للمرة الأولى تثير مآسي المعارك التي وقعت حينها، فتبدّلت لهجة التيار الوطني الحر وعون إزاء الحدث.مع دخول عون رئيساً للجمهورية الى بعبدا، في 31 تشرين الأول، صارت للاحتفالية بالذكرى نكهة أخرى. على مدى خمس سنوات، صعّد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لهجته في المناسبة، ولعل أقواها كان عشية تظاهرات 17 تشرين الأول عام 2019 حين دعا رئيس الجمهورية في منتصف الولاية الى الضرب على الطاولة «ونحن مستعدون لقلب الطاولة»، قبل أن تنفجر تظاهرات بيروت وتنال شظاياها بقوة من العهد والتيار. إلا أنه سرعان ما أراد استرداد المبادرة في السنة التالية حين لوّح، في المناسبة نفسها، «بما هو أبعد من الفيدرالية» إذا استمر التعامي عن اللامركزية. وقال إنه لا يمكن العيش «مع هذا الدستور النتن والعفن الذي أتانا بالدبابة وكمّل علينا بالفساد».
مع انتهاء الولاية، وفي الاستعداد لذكرى 13 تشرين و31 تشرين الأول عام 2022، يحاول التيار الوطني فرض إيقاعه تحضيراً لحدث انتهاء عهد عون. لكنه يعدّ العدّة كي تكون 13 تشرين الأول مناسبة لرسم استراتيجية التيار على تقاطع بين مرحلتين، تختتم الثانية بانتهاء عهد عون والتأسيس لمرحلة جديدة يقود فيها باسيل التيار الى استحقاقات أساسية.
من الآن، تبدو الطريق أمام التيار مليئة بالعقبات. فانتهاء العهد من دون رئيس للجمهورية، هو تركة ثقيلة في عهدة باسيل بوصفه المحاور الرئاسي والحكومي، خليفة عون الذي تسلّم فراغاً رئاسياً عام 1990 ولم يسلّم الرئاسة الى خلفه الرئيس رينيه معوض، وبوصفه الوريث الوحيد للتركة العونية الحزبية أي التيار الوطني الحر. ومن الصعوبة تخطّي إشكالات التيار الداخلية في الكلام عن التيار، في لحظة استحقاقات مصيرية، وفي ظل الإشكالات المتناقضة حولها وكيفية تصرّف معارضي باسيل من الآن وصاعداً، كونها تؤشر الى أسلوب التعامل الذي سيفرضه على حزبه كنموذج أولي. فباسيل في ذكرى خروج عون الأول، وعلى بعد أسبوعين من خروجه الثاني، يحاول تثبيت قدرته على الإمساك بالتيار واستمرار تأثيراته المباشرة على السياسة الداخلية.
لكن استحقاق هذه السنة بازدواجيته يحمل للتيار سلبيات واقعية قياساً الى تجارب سياسية سابقة في لبنان. إذ سيعود التيار الوطني في هذه المناسبة حزباً كباقي الأحزاب اللبنانية، ولن يعود حزب الرئيس ولا رئيس الظل، حتى لو تشكّلت الحكومة، قبل ذلك الموعد، وامتلك فيها حصصاً وزارية. وسيعود حزباً لا سند له سوى حزب الله بالحدّ المعقول الذي لا يدخله في أي إشكالات مع حلفائه، ولا سيما أن حزب الله سيتحرر بدوره من التزاماته بالرئاسة وما قدّمه لها وقدّمته له طوال ست سنوات.
استنهاض التيار من دون عصب سياسي حقيقي أحد التحدّيات التي تواجهه كما واجهته أحزاب أخرى

وسيكون أمام التيار الوطني، مهما بلغ عدد نوابه، مهمة استعادة الزخم الذي سيفقده على طريق الخروج من احتفالية بعبدا. حتى طريق القصر الجمهوري، لن تبقى سالكة لاحتفالات التيار أو كما جرى في التظاهرة المضادة لتظاهرة 17 تشرين دعماً لعون ودفاعاً عنه. ومن الصعب تصوّر استراتيجية تشابه استراتيجية عون بعد 1990، حين حوّل قاعدته العونية من باريس، وعبر اتصالات هاتفية، الى مساحة عريضة من المعارضين العونيين في المدارس والجامعات وفي الشارع. اليوم، ومع كل الأدوات المتاحة وفي غياب أي سلطة أمنية قمعية، يصبح استنهاض التيار من دون عصب سياسي حقيقي أحد تحدّيات التيار كما سبق أن واجهتها أحزاب أخرى. فالانتخابات أصبحت وراء التيار، واللعب على وتر الاستنهاض المسيحي فقد قيمته كما حال استهلاك الخلافات المسيحية الداخلية، والاتكاء على رئاسة الجمهورية سينتهي في غضون أسابيع قليلة. والامتحان الأساسي للتيار يكمن في رئاسة الجمهورية. فحصولها برئيس غير فئوي يعني إبعاد التيار عن صدارة الحدث أكثر فأكثر، وعدم إجرائها يعني في الوقت نفسه استنزاف التيار للرئاسة في الشارع المسيحي، حيث سيكون له أكثر من خصم يحمّله مسؤولية الفراغ. وما بين الحدّين، سيخرج التيار من بعبدا في 31 تشرين الأول، مع رئيس الجمهورية. في انتظار أن يحدّد خريطة طريقه، بعدما استنفد وعود السنوات الخمس الماضية، فلا يصبح خارج ظلّ عون مثل أحزاب أخرى يميناً ويساراً، شهدت انقلابات ومنافسات وأجنحة، بعدما فقدت موقعها ورفع رعاتها إقليمياً ودولياً الغطاء عنها.