لن يشبه خروج رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من القصر الجمهوري، وهو الأمر الذي بات مؤكداً، خروج الرئيسين إميل لحود وميشال سليمان. كمية الافتراقات والخلافات العاصفة في السنتين الأخيرتين، ستجعلان من حدث انتهاء العهد، مزيجاً من تناقضات سياسية وعاطفية وشعبية. فلن يكون من السهل تخطي مشاعر الذين ينتظرون هذا اليوم للاحتفال به، كما الذين سيحوّلونه يوماً لاحتضان الرئيس الخارج من القصر للمرة الثانية في حياته السياسية.لكن خروج رئيس الجمهورية، بغضّ النظر عن اسمه وهويته السياسية، من دون أن يسلّم مقاليد السلطة إلى خلف له، هو مدعاة لطرح أسئلة عن اليوم التالي لـ31 تشرين الأول. وهذه الأسئلة والمخاوف هي التي تشغل مساحة من النقاشات الحالية، في حال لم يُنتخب رئيس للجمهورية. والعقدة هنا لا تتعلق بموقع الحكومة سواء كانت حكومة تصريف أعمال أو كاملة الصلاحيات، بل بموقع القوى السياسية المعنية بالاستحقاق على درجات متفاوتة.
تختلف الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية، عن الظروف التي رافقت الفراغ الرئاسي بعد لحود وسليمان. في الفراغ الأول، كان لبنان يعيش مرحلة انتقالية وحضوراً سياسياً طاغياً لفريق 14 آذار في مواجهة فريق 8 آذار، وهذا النزاع هو الذي جعل ليّ الذراع بينهما يتفاقم ما أدى إلى 7 أيار ومن ثم اتفاق الدوحة وانتخاب سليمان. لا شك أن مهلة الفراغ أعادت تنشيط القوى السياسية وجعلت موازين القوى تتأرجح بين خصمين تواجها بحدة. الفراغ الثاني أعطى المجال رحباً لحزب الله في تمتين تموضعه خلف مرشح واحد، هو عون، في موازاة استهلاك القوى المعارضة نفسها في صراعات داخلية خرجت منها منهكة، لا سيما بعد تسوية القوات اللبنانية والرئيس سعد الحريري مع عون.
الفراغ الثالث المحتمل، عدا عن أهمية تطيير استحقاق إجباري كممر لتركيبة السلطات بحسب الدستور، سيضع القوى السياسية أمام اختبارات القوة على أكثر من مستوى. فالفراغ أولاً سيزيد مرشحاً على لائحة المرشحين، أي قائد الجيش العماد جوزف عون الذي سيتحرر من عبء التعديل الدستوري، وهذا أول الغيث. فوضع الجيش في ظل أزمة فراغ واحتمالات مفتوحة على كثير من المخاطر نتيجة تفاقم الأزمة المتوقعة على كل الصعد الحياتية، وهو الأمر الذي لم يكن حاضراً في الفراغين السابقين، سيزيد من تسليط الضوء على الجيش وقائده، ويحوله أحد عناصر القوة كمرشح، في مقابل المرشحين المحتملين والمعلنين. كما أنه سيحوله قوة تصاعدية في وجه الكتل السياسية الأخرى التي تشكل قوة دفع للمرشحين.
فالفراغ الرئاسي، سيطاول في شظاياه التيار الوطني الحر، وهو أول المتضررين ليس لجهة ضياع ترشيح رئيسه النائب جبران باسيل في متاهات التجاذبات وصراع القوى، إنما في إحداث توترات داخل التيار وقد أصبحت أخبارها متداولة بين نواب التيار وقياداته. وهذا الأمر من شأنه إذا ما صدقت كل التكهنات حول بعض النواب «المرشحين» أن يضعف موقع التيار في المعادلة الرئاسية وحساباتها. علماً أن تأهيل قائد الجيش إلى منصب مرشح من المرشحين الأوائل سيزيد العبء، لأن قاعدة التيار لا تزال تأكل في الصحن نفسه مع المؤسسة العسكرية مهما كانت ملاحظات التيار على قائدها. والتيار الذي سيخرج رئيسه الفخري من القصر سيبقى حزباً سياسياً له قوته وقاعدته. لكن تجارب الأحزاب خارج السلطة في بلد قائم على الخدمات والمحسوبيات والمحاصصات وتغير الولاءات، ليست مشجعة كي تجعل من أي حزب خارج السلطة قوياً في حد ذاته، إن لم يستنهض مجدداً قاعدته على عنوان يشد فيه العصب السياسي وإلى حد كبير الطائفي. وهذا التحدي الذي يواجهه التيار في مرحلة الفراغ الرئاسي، في مقابل القوات اللبنانية في شكل أساسي، والتي ستسعى إلى استخدام مرحلة الفراغ لاستنهاض فاعل، يحولها قوة من القوى القابضة على مفاصل الاستحقاق، خصوصاً أنها ترتكز على قاعدة نيابية متينة، وغير خاضعة لتجاذبات داخلية، وهي تعتبر أن الانتخابات قد تكون من أهم المعارك التي خاضتها في السنوات الأخيرة. ولأن كل طرف سيعيد برمجة حساباته من الصفر، بدءاً من لحظة خروج عون من بعبدا، فإن كافة القوى الكبيرة والصغيرة، والشخصيات المستقلة والنواب التغيريين والمرشحين والمرشحات، سيكونون أمام لحظة مفاضلة بين خطاب سابق وخطاب مستقبلي، وكلما تأخر موعد الاستحقاق، زادت المتغيرات في أمرين: اختلاف الخطاب السياسي بين ما قبل نهاية العهد وما بعده، وهذا ليس أمراً عابراً، في إعادة توجيه العناوين السياسية إثر طي صفحة عون رئيساً، وبين تعزيز الحضور على الأرض. وفي هذه النقطة، لا يفترض الاستهانة بما يمكن أن تقوم به القوى السياسية الكبرى التي قد تعيد خلط أوراقها وفقاً لقواعد جديدة قد تكون الأرض ملعبها هذه المرة. رغم كل ما تحمله من محاذير، لكن التحديات أمام هذه القوى قد تجعلها تفترض أن الأرض هي المعبر المناسب لمواجهة آخر الامتحانات العسيرة في اختبار قوتها ووجودها رقماً صعباً في معادلة الرئاسة.